الفساد يتحدّى الحكومة اللبنانية الجديدة
عماد مرمل – «صدى الوطن»
دخلت الحكومة اللبنانية الجديدة إلى مجلس النواب وهي تعرف أنها ستخرج منه بثقة فضفاضة، أما كلمات النواب من على المنبر فليست سوى من لوازم جلسة مناقشة البيان الوزاري، إلا أنها لا تقدم ولا تؤخر في الثقة المضمونة، حتى وإن علت نبرة بعض المتكلمين أحياناً.
نجاح الحكومة في الامتحان النيابي، وبعلامات مرتفعة، لا يعود إلى أنها تملك طاقات استثنائية أو حلولاً خارقة للأزمات الموجودة، بل لأنها مجرد انعكاس وامتداد للكتل الأساسية التي تستحوذ على الأكثرية الساحقة من مقاعد المجلس، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن تمنح تلك الكتل ثقتها للوزراء المنتمين إليها، والمكلفين بتمثيلها في الحكومة.
وإذا كان هذا التماهي بين مجلسي الوزراء والنواب يفرز تلقائياً، منسوباً مرتفعاً من الثقة في الحكومة، إلا أن من شأنه في الوقت ذاته أن يحول دون ظهور معارضة قوية تحت سقف السلطة التشريعية، ما يؤدي تالياً إلى تقويض قواعد اللعبة الديمقراطية وتراجع فرص إخضاع السلطة التنفيذية إلى المساءلة والمحاسبة، إذا أخطأت أو قصرت، كما تقتضي الأصول المتبعة في الأنظمة الديمقراطية السليمة والطبيعية.
إنها الضريبة المترتبة على تشكيل حكومات الوحدة الوطنية التي تضم بين دفتيها معظم التلاوين السياسية، على قاعدة أن هناك حاجة في اللحظات الصعبة والمفصلية التي تمر فيها الدول إلى تجميع القوى المتفرقة، بغية تحصين الجبهة الداخلية وتحسين شروط مواجهة الأزمات القائمة.
لكن المفارقة، أن «الحكومة التوافقية» باتت قاعدة في لبنان بدلاً من أن تكون استثناء، بحجة أن التركيبة الداخلية المرهفة والمستندة إلى توازنات دقيقة، لا تسمح بتكوين السلطة على أساس أكثرية وأقلية، أو موالاة ومعارضة، وإنما تستوجب في معظم الأحيان أن تصدر القرارات بالتوافق، حتى لا يشعر أي مكوّن بالتهميش والإقصاء. كما أن أصحاب هذه النظرية يلفتون إلى أن لبنان، الموجود في محيط إقليمي غير مستقر، يواجه باستمرار أوضاعاً حساسة وتحديات صعبة، الأمر الذي يفرض عليه الاحتماء خلف «ساتر» حكومات الوحدة الوطنية لتفادي أضرار العواصف الإقليمية والدولية التي تهب عليه، أو أقله للتخفيف منها.
في المقابل، أثبتت التجارب المتلاحقة أن الحكومات الائتلافية تكون ضعيفة الإنتاجية ومتواضعة الإنجازات، كون حركتها بطيئة بفعل التباينات الحادة بين مكوناتها في حين أن الأزمات تتفاقم بوتيرة متسارعة، بل إن هذه الحكومات المثقلة بالخلافات تصبح أحياناً عبئاً على اللبنانيين بدلاً من أن تكون عونا ًلهم، كما يُفترض أن تكون الغاية منها.
غرائب نيابية
لعل أحد أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة يتمثل في مكافحة الفساد والهدر، بعدما وصل النزيف في جسم الدولة وبنية الاقتصاد إلى الخط الأحمر. والغريب أن معظم الخطباء في جلسة مناقشة البيان الوزاري في مجلس النواب التقوا، ومن مختلف الاتجاهات، على الدعوة إلى محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، من دون أن يكون هناك، حتى الآن، مرتكب واحد من أصحاب الرؤوس الكبيرة خلف القضبان، لكأن سارقي المال العام والمتورطين في الصفقات المشبوهة ليسوا سوى «أشباح»، لا معالم أو هويات معروفة لهم.
لقد تحول مجلس النواب، لأيام عدة، إلى ساحة للمزايدات الخطابية في ما خص مكافحة الفساد وتحقيق الإصلاح، بعدما أنكر الجميع مسؤولياتهم عما آل إليه الواقع اللبناني ورفعوا سقوف المواقف المجانية والاستعراضية، مستفيدين من النقل المباشر، كي يدغدغوا عواطف ناخبيهم.
مع ذلك، ووسط الضجيج، سُجلت كلمة لافتة للانتباه ألقاها عضو «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب حسن فضل الله الذي أطلق رسمياً، ومن على منبر المجلس النيابي، الرصاصة الأولى في معركة «حزب الله» ضد «إمارة» الفساد والهدر، متكئاً على السجل النظيف للحزب الذي لم يسبق له أن تورط في دهاليز الصفقات المريبة والمشاريع المشبوهة، ما يعطيه فرصة انتزاع المبادرة الهجومية في هذه المواجهة، من دون أن يتجاهل المخاطر والعوائق التي يمكن أن تعترض مهمته التي هي أقرب إلى المغامرة.
دور القضاء
يؤكد النائب فضل الله لـ«صدى الوطن» أن الملفات التي أضاء عليها ستبقى تحت مجهر «حزب الله» ورقابته إلى حين البت بها، مشدداً على أن ما أدلى به في المجلس لن يمر مرور الكرام ولن يكون مجرد استعراض دعائي لدغدغة العواطف، وموضحاً أنه مصر على المضي حتى النهاية في ملاحقة القضايا التي تطرق إليها، «بعدما كنا ننتظر تشكيل الحكومة لنباشر في هذه المهمة».
ويشير إلى أن «حزب الله» لن يجد حرجاً في التعاون مع أية جهة سياسية تبدي جدية في محاربة الفساد، حتى لو كان يختلف معها في الخيارات، مؤكداً على أهمية تفعيل دور القضاء في تحقيق الإصلاح، «بعدما لمسنا خللاً أو تراخياً في نمط تعاطيه، كما تبين على سبيل المثال من لفلفة ملف الإنترنت غير الشرعي الذي سبق للجنة الاتصالات النيابية (برئاسة فضل الله) أن خاضت فيه، قبل أن يطوى حين أتى وقت المحاسبة».
وعن سبب عدم لجوئه إلى تسمية الأشياء بأسمائها وكشف هويات الفاسدين، مع أنه يعرفهم جيداً، يوضح فضل الله أنه يجب التمييز بين دور النائب وصلاحيات القاضي، مشيراً إلى أنه ليست وظيفة «الحزب» أن يسمي المرتكبين ويدينهم وإنما هذا من اختصاص القضاء في الأساس بعد إتمام التحقيقات والمحاكمة العادلة، «على أن نتولى نحن الضغط بكل الوسائل الممكنة لمساءلة المرتكبين ومعاقبتهم».
أولويات المرحلة
ويؤكد فضل الله أن «حزب الله» وضع ضمن أولوياته للمرحلة المقبلة مجموعة من الملفات، مشدداً على أن من بينها، التدقيق في الحسابات المالية للدولة، «علماً أننا نقدّر موقف الرئيس نبيه بري الذي تجاوب مع طلبنا بوضع تلك الحسابات تحت تصرف مجلس النواب، كما المطلوب تصويب طريقة إنفاق قرض من البنك الدولي بقيمة 400 مليون دولار، بحيث يُصرف في الاتجاهات الصحيحة وليس في مجالات غير مفيدة».
ويعتبر فضل الله أن هناك أيضاً ضرورة ملحة لتغيير سلوك «مجلس الإنماء والإعمار»، «لأنه لم يعد مقبولاً أن يبقى قابضاً على كل السلطات والصلاحيات المتعلقة بالمشاريع، من دون حسيب أو رقيب، وكذلك ينبغي أن يُعالج ملف الكهرباء جذرياً، ونحن لا نكتفي بالشكوى بل قدمنا عرضاً عملياً للتعاون مع إيران، على قاعدة تأمين الطاقة الشاملة بأقل كلفة ممكنة».
ويؤكد النائب الجنوبي، الاعتراض على التوظيف العشوائي الذي حصل أخيراً في الدولة، خارج ضوابط القانون، «فيما الفائزون في امتحانات مجلس الخدمة المدنية لا يزالون مُهمَلين من دون عمل، بانتظار توازن طائفي هو غير مطلوب أصلاً».
Leave a Reply