عماد مرمل – «صدى الوطن»
شكلت «عاصفة النفايات» التي ضربت لبنان فضيحة للطبقة السياسية التي أثبتت مرة أخرى انه لا توجد حدود لإخفاقاتها المتلاحقة.
تعدت هذه الازمة فـي دلالاتها ومعانيها الاطار البيئي، على أهميته وخطورته، لتغدو فـي جانب منها أزمة نظام وحكم!
ان دولة تفشل فـي إزالة النفايات، فـي القرن الحادي والعشرين، هي دولة هشة وهزيلة، يديريها نظام سياسي مفلس وفاقد لمبرر وجوده، إذ ما الجدوى من نظام يغرق فـي «برميل زبالة»، ولا يستطيع إيجاد آلية للتخلص من النفايات، فـي حين ان هذه المهمة هي من أبسط البديهيات المناطة بأي سلطة فـي أكثر الدول تخلفا.
وبينما احتفلت ايران بالتوصل الى اتفاق مع الدول الصناعية الكبرى يضمن حقوقها فـي انتاج الطاقة النووية السلمية، كان لبنان فـي الوقت ذاته يتخبط فـي نفاياته، بعد إقفال مطمر الناعمة أمام نفايات بيروت وجبل لبنان، وانتهاء عقد شركة «سوكلين» التي كانت تتولى جمعها وطمرها، من دون إيجاد بديل عنها، بسبب التأخر فـي إجراء المناقصات وتلزيم شركات جديدة.
وفضيحة النفايات، ليست وليدة اللحظة ولا نتاج خلل عابر، بل هي أتت تتويجا لمسار طويل من العجز الرسمي المتراكم الذي حال حتى الآن، دون انتخاب رئيس للجمهورية، ووضع قانون للانتخابات النيابية، وتعيين قائد للجيش، ووضع الموازنة، وفتح مجلس النواب امام التشريع، وتنظيم عمل الحكومة فـي ظل الشغور الرئاسي، ومعالجة أزمة الكهرباء المتمادية، ومنع تفاقم الدين العام، وغيرها من المشكلات.
وما يجعل الفضيحة الطارئة «مدوية» وعابقة بكل الروائح الكريهة، هو ان ما حصل كان متوقعاً من قبل جميع أصحاب الشأن، من دون ان يحرك أحد ساكنا لمنعه، إذ انه كان معروفا منذ أشهر ان مطمر الناعمة سيُقفل فـي 17 تموز (يوليو) الحالي، بناء على اتفاق جرى بين ابناء المنطقة المحيطة به وبين المسؤولين الذين كانوا قد طلبوا تمديد فترة عمل المطمر حتى التاريخ المشار اليه. وبالتالي، فان الحكومة ومجلس الإنماء والإعمار كانا يملكان الوقت اللازم للعثور على بديل مناسب، يكون قادراً على احتواء نفايات العاصمة وجبل لبنان، الامر الذي لم يحدث، بعدما واجهت المناقصات التي أعدتها وزارة البيئة صعوبات تقنية وسياسية، تسببت فـي تأخير انجاز عملية تلزيم جمع النفايات وطمرها لشركة جديدة، بعدما انتهى عقد «سوكلين».
وأخطر ما رافق أزمة النفايات تمثل فـي ظهور «عصبية مناطقية» من خلال رفض بعض المناطق، خارج العاصمة، استقبال جزء من نفايات بيروت فـي حيزها الجغرافـي، على قاعدة ان كل منطقة مسؤولة عن نفاياتها حصرا، وليست معنية بتحمل أعباء أي منطقة أخرى، علماً انه لا توجد فـي بيروت مساحات او أراض قادرة على احتواء النفايات.
هذا السلوك الذي تغذيه شخصيات سياسية ونيابية، لأسباب انتخابية وشعبوية، دفع البعض فـي لبنان الى التحذير من نشوء «فدرالية النفايات»، بالترافق مع «فدرالية الطوائف» التي تتحكم بطريقة إدارة السلطة، بحيث لم يعد ينقص سوى أن يعلن كل قضاء عن تأسيس جمهورية المطمر المستقل، وكأن نفايات القضاء الآخر تخص دولة أجنبية.
وإذا كان اللبنانيون قد استطاعوا التعايش مع الكثير من الملفات الساخنة، فان أزمة النفايات بدت ثقيلة الوطأة عليهم، خصوصا بالنسبة الى سكان بيروت وجبل لبنان، لانها طاردتهم فـي الشوارع والأزقة، وتسربت بروائحها الكريهة ومخاطرها الصحية الى منازلهم وأماكن عملهم، من دون تمييز بين الطوائف والمذاهب والاحزاب والتوجهات، الى حد أن بعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بشروا بولادة وحدة وطنية من نوع جديد، بعدما جمعت مصيبة النفايات بين الضاحية الجنوبية حيث نفوذ «حزب الله»، والطريق الجديدة حيث نفوذ «تيار المستقبل».
ولعل من المفارقات البليغة التي عكستها قضية انفلاش النفايات، ما ثبت بالعين المجردة وهو أن لبنان يستطيع أن يستمر من دون رئيس للجمهورية، لكنه لا يستطيع ان يعيش من دون عمال نظافة يزيلون النفايات التي تبين انها أشد خطورة من الشغور فـي موقع الرئاسة!
ولئن كانت فضيحة من هذا النوع تؤدي فـي الدول الديمقراطية الى استقالة الحكومة أو الوزراء المعنيين، إلا انها فـي لبنان تفضي الى تثبيت المسؤولين فـي مواقعهم، وسط غياب أي شكل من أشكال المحاسبة والمساءلة، مع اقفال مجلس النواب المختص بالرقابة البرلمانية، والتأجيل المتواصل للانتخابات النيابية حيث يُفترض أن يخضع النواب الى «جردة حساب».
وما عزز حصانة المسؤولين الحاليين كون الحكومة هي المؤسسة الدستورية الوحيدة التي لا تزال قائمة، فـي ظل غياب رئيس الجمهورية وشلل مجلس النواب بفعل مقاطعة الكتل المسيحية الاساسية للتشريع، وبالتالي فان أحدا لا يحتمل فـي هذه اللحظة دفع الحكومة الى الاستقالة والسقوط، لان البديل عنها فـي الظروف الاستثنائية الراهنة هو تعميم الفراغ والدخول فـي نفق المجهول.
والأسوأ فـي ظل هذا الواقع، ان هناك من أصرّ على مقاربة ملف النفايات الحارق وفق حسابات سياسية ومناطقية ضيقة، فـي حين ان ملفا كهذا يحتاج الى معالجة وطنية شاملة، تعتمد بالدرجة الاولى المعايير العلمية، وهو ما دفع وزير البيئة محمد المشنوق الى القول لـ«صدى الوطن» ان هذه القضية كانت عرضة للتجاذب والاستثمار على المستوى السياسي، لافتا الانتباه الى أن كثيرين حاولوا التبروء منها وإلصاق تبعاتها بوزير البيئة حصرا، فـي حين ان الكل شريك فـي المسؤولية من مجلس الوزراء الى مجلس الانماء والاعمار.
واضاف المشنوق: «لو كانت استقالتي تفـيد فـي معالجة الازمة، لكنت قد تركت منصبي فورا، لكن المسألة لا تتعلق بشخص وإنما بمجموعة عوامل متداخلة».
Leave a Reply