«بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنّوا عَليَّ كرام»
إنّـه موسم الصيف موسم الخروج من التقوقع القسري الـذي يفرضه شتاء هذه البلاد القارس. فمع الربيع والصيف تدُّب الحياة مجدداً في عروق هذه الرقعة الجغرافية الخضراء من الكوكب الأزرق. ترى الناس يضحكون للشمس وكأنهم يبادلونها المجاملة. الشمس تضحك لنا هذه الايام بمزيج من الخجل والقسوة وكذلك زهور الأشجار وعصافير السماء.
إنّـه موسم الصيف ومعاد زيارة الديار الأم… نتجه الى هناك نتبع قوافل قلوبنا التي لا نفتأ نحضرها الى هنا، فتعود من تلقاء نفسها كالحمام الزاجل.
إنه الربيع والصيف، يجسّـدان نضارة الحياة وشبابها، يذكراننا بأننا احياء وبأن مشيئة الخالق تقتضي بأن نُبعث أحياء من جديد.
لعله أريج ربيع جبل عامل الذي اشبع شاعرية المقدمة هذه، او قد يكون صخب بيروت وبريقها، لكن النثر والشعر والخيال لن ينسياني الواقع، «لبنان ليس بخير» ومشاكله لا تحصى في مقالة ولا حتى مقالات. ويبقى رأس جميع المشاكل هو غياب الوعي، لبناننا كمريض السّكري الذي يرفض أن يتوقف عن أكل السكر ولا يلتزم بالدواء وتعاليم الاطباء، ثم يشتكي من عوارض المرض ويتعجب حين تتآكل أطرافه بالغرغرينا. لسنا في صدد الإطناب في سرد المشاكل ولا ندعي امتلاك الحلول.. ولكن بأمور بسيطة ببساطة الدبوس نسـتطيع ان نُحدث ثقبا في الجدار.
بإمكاننا كمغتربين أن نستفيد ونفيد مجتمعنا وأهلنا خلال زيارتنا للبنان. باستطاعتنا ان ننقل بعضا من خبراتنا، مما تعلمناه وشاهدناه في أميركا. بإمكاننا أن نحدّث الأهل والأصدقاء بأننا لم نمت كمداً حين التزمنا بنظام السير، ان نُبشّـر بأن «الحياة أسهل» حين يلتزم الجميع بدورهم، فلا شخص له أفضلية لأي سبب كان. نبشرهم بأن الناس في بلاد العم سام، من رئيسهم الى فقرائهم، لهم نفس الحقوق التي يكفلها الدستور.
بمقارنة بسيطة يمكننا أن نرى أهمية النظافة والترتيب وانعكاسها على معنوياتنا وحياتنا وراحتنا النفسية. فالاهتمام بالمنظر العام، بدءاً من تنظيم البناء والحفاظ على المساحات الخضراء، كمتنفس للناس خاصة في مدينة صاخبة كبيروت يكاد الاسمنت يلتهم آخر شبر أخضر منها، بل حتى القرى بدأت تنمو بعشوائية وبعضها تحول الى مدن بلا روح.. أو الى فيلات و«قصور» شيّدت للتفاخر والتباهي فيما تبقى جدرانها حزينة تنشد مع الريح «زوروني كل سنة مرة».
حري بنا ان نلتفت حقيقةً الى قرانا التي خرجنا منها وهِمنا في الأرض بعدها، علّنا نعيد اليها بعض الجميل، لا بالقصور الفارغة بل ببث الحياة فيها..
فمثلاً بإمكان أصحاب المهن والمتعلمين (أطباء، ومهندسين، محامين، ومحاسبين وغيرهم) أن يساهموا -كل في إطار تخصصه- بتحسين وضع الضيعة أو البلد. صحيح أننا نزور لبنان في إجازة، ولكن تقديم النصح والمشورة وحتى التطوع ببعض الوقت لاقامة ندوات ودورات تعليمية وتثقيفية لن يأخذ الكثير من الجهد والوقت. قرانا ومدننا بحاجة الى عيادات ومعاهد ومهندسين ومستثمرين وخبرات في شتى المجالات.
في السنوات السابقة رأينا المؤسسات الاغترابية والوفود من فعاليات جاليتنا تكتفي بلقاء الرؤساء والمسؤولين واخذ الصور التذكارية معهم في حين كان يجب ان ينصب الاهتمام نحو الناس أكثر.. فالناس في لبنان ملّوا المسؤولين، وهم ينتظرون حبل خلاص بإمكاننا أن نساهم في مده.
البعض منا ينظر الى لبنان كحلبة لممارسة كل ما هو ممنوع وضد القانون في الولايات المتحدة، من تهور وسرعة في القيادة والتشفيط والتزمير والتشبيح والغش والتدفيش.
لماذا؟ ألسنا راضين ومقتنعين بطريقة عيشنا في مهجرنا حتى ننقلب على اعقابنا حالما تحط بنا الطائرة في مطار بيروت.
علينا واجب تجاه أنفسنا وأبنائنا وآبائنا وأرض الجدود، بأن ننهض بهذه البلاد ونمد يد العون قدر ما استطعنا، فلنأخذ معنا الى هناك درّر هذه البلاد تاركين ضررها ونُحضر معنا زاداً من الأمل والصّفاء والسّكينة.
طيبون هم أهل قرى بلادنا، بسيطون، يحبون الخير… نعم هناك الكثير من المدّعين والمرائين والانتهازيين، ولكن لا يحق لهؤلاء أن يقطعوا الطريق على أهل الخير.
هنا في الشرق الاوسط وفي لبنان تحديداَ يمكن ان نرى تجسد الهيمنة والعنجهية والفكر الاميركي إن كان في السياسة أو الاقتصاد أو حتى في تصرفات الافراد في المجتمع. لذا فإن دورنا كعرب في الولايات المتحدة مهم، خاصة في هذه الايام العصيبة، لإيصال صورة واقعية للمجتمع الأميركي عن أوطاننا. فنحن شئنا أم أبينا حتى ولو ولدنا في أميركا محسوبون على موطن الجدود.
مع كل زيارة الى لبنان يتأكد لي أكثر فأكثر ما قلته ذات يوم عن بلدي الأم، «لبنان جنّة يحكمها أبالسة»، فلنكن نحن ملائكة رحمة، لا شياطين جدد.
Leave a Reply