بقلم: صبحي غندور
تكرّرت في الأيام الأخيرة التصريحات الأميركية والبريطانية التي تستبعد وجوداً عسكرياً جديداً على أرض العراق، بينما تؤكّد هذه التصريحات على ضرورة القيام بأعمالٍ عسكريةٍ أخرى، غير التواجد على الأرض، لمواجهة نمو وانتشار جماعات الإرهاب في العراق وسوريا. فإضافةً لإرسال مساعدات أمنية وعسكرية و«خبراء ومستشارين» للحكومة المركزية في بغداد وبـ«حكومة كردستان» في أربيل، قامت الولايات المتحدة، وما تزال، بغاراتٍ جوية على مواقع لجماعة «داعش» في شمال العراق، وتحدّث رئيس الوزراء البريطاني عن ضرورة التحرّك أيضاً في «مجالات أخرى غير المساعدات الإنسانية»، ممّا يعني أنّ بريطانيا ستشارك أيضاً في العمليات الجوية الجارية في العراق.
الملفت جدّاً للانتباه هو هذا التوافق والإجماع الدولي الذي حصل في مجلس الأمن على تبنّي المشروع البريطاني الخاص بمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا، وتضمين هذا القرار نصّاً على البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذي يعني أنّ القرار يمكن أن يُطبّق باستخدام القوّة العسكرية. لكن لم تكن في القرار صيغةٌ واضحة حول من له الحقّ باستخدام القوة العسكرية في مواجهة الجماعات الإرهابية، وكيف سيكون التعامل مع الحالة السورية المختلفة تماماً عن الوضع في العراق. فإذا كانت الحكومة المركزية في بغداد ترتبط بمعاهدات عسكرية مع واشنطن، فإنّ ذلك يختلف تماماً عن واقع حال العلاقة السيّئة بين واشنطن وحكومة دمشق، فعلى أيّ أساس سيكون التدخّل العسكري الجوي الأميركي في سوريا، وبناءً على طلب من؟! وهل تكفي قانونياً، حسب مرجعية «مجلس الأمن الدولي»، مناشدة أطراف بالمعارضة الخارجية السورية لحدوث هذا التدخّل من أجل إضفاء «الشرعية الدولية»؟!. ثمّ، ماذا سيكون موقف كلٍّ من روسيا والصين إذا حدثت غارات جوية عسكرية أميركية في سوريا دون موافقتهما؟ وهل ستسمح موسكو تحديداً بذلك بعد أكثر من ثلاث سنوات على رفض روسيا لهذا الأمر، وبعد انتقادها لما حصل في ليبيا من خديعة أميركية وأوروبية، عقب موافقة موسكو على قرار «مجلس الأمن» بشأن المساعدات الإنسانية، خلال الانتفاضة الشعبية المسلّحة ضدّ نظام القذافي في العام 2011؟!.
أيضاً، ماذا عن موقف إيران و«حزب الله» في لبنان من احتمالات تدخّل عسكري أميركي مباشر في سوريا؟! وهل يمكن أن تفعل ذلك إدارة أوباما الآن دون تنسيقٍ مع طهران، وهي التي حرصت على استباق الغارات العسكرية الأميركية في العراق بتفاهمات مع إيران شملت شؤوناً أمنية وسياسية خاصة بالعراق، كان من بينها التوافق على خروج المالكي من الحكم وترشيح حيدر العبادي مكانه؟!.
فما الذي ينتظر العراق وسوريا الآن (واستتباعاً لبنان وكل المشرق العربي) من تطوراتٍ واحتمالات، وهل ما يحصل هو مقدّمة لتسويات دولية وإقليمية، أو مجرّد تقاطع مؤقّت لمصالح هذه الدول التي تدير الأزمات وحلولها خلال هذه الفترة؟! ثمّ في حال وجود توافقٍ مؤقّت بين هذه الدول على مواجهة «داعش» وإفرازاتها، فما الذي سيحصل بعد النجاح في هزيمة هذه الجماعات الإرهابية وما سيكون بديلها على الأرض من حكومات ومعارضات وتسويات سياسية، بل أيضاً من حدود كيانات؟!. وهل ستتّعظ القوى الإقليمية والمحلّية التي راهنت على جماعات «النصرة» و«داعش» خلال السنوات الماضية من هذه التجربة المرّة في التحالف مع قوى شيطانية إرهابية لم ترحم أحداً في مناطقها من كلّ الطوائف والمذاهب والإثنيات.؟!
تساؤلاتٌ عديدة جارية الآن دون قدرةٍ على حسم الإجابة بشأنها، فمحصّلة السنوات الماضية من هذا القرن الجديد لا تشجّع كثيراً على التفاؤل بمستقبلٍ أفضل، طالما أنّ البلاد العربية هي ساحات لمعارك وصراعات، وليست مصدر قرارات أو قدرة في الاعتماد على الذات من أجل تصحيح الواقع وتغيير مساره لصالح العرب أنفسهم أولاً. فالمخاوف أن يتكرّر ما حدث في العراق (عام 2003)، وفي ليبيا (عام 2011)، من تدخّل عسكري أجنبي لإسقاط أنظمة، فإذا ببديلها على الأرض ميليشيات مسلّحة على أسس طائفية وقبلية وإثنية أطاحت بكل مقوّمات الدولة الواحدة، وأضعفت الولاء الوطني والقومي، وغيّبت أي ممارسة سليمة لمفهوم المواطنة، وتسبّبت بتهجير مئات الألوف من المواطنين. فالخوف هو إذن من أن يكون إنهاء «داعش» ومثيلاتها هو مقدّمة لتكريس انقسامات حدثت في السنوات الماضية، فأنتجت واقعاً مريراً بين أبناء الوطن الواحد، وأقامت حواجز من الدم والكراهية للشريك الآخر في الوطن والمواطنة، بل أيضاً كرّست انقساماتٍ جغرافية تهدّد الآن وحدة الكيانات والأوطان.
فالحذر مطلوبٌ الآن من المستقبل، كما هو مطلوبٌ رفض الحاضر وتداعيات الماضي. إذ أنّ الوعد بمستقبلٍ أفضل يفترض وجود عناصر لم تزل مغيّبة حتّى الآن، وتحتاج إلى مراجعات كثيرة مع النفس لدى كل الأطراف العربية والإقليمية المعنيّة بالأزمات الراهنة. ولعلّ أولى هذه المراجعات هي وقف المراهنة على «شيطان الداخل»، المتمثل الآن بجماعات الإرهاب، من أجل تحقيق مصالح فئوية لهذا الطرف أو ذاك، كما هو مهمٌّ أيضاً الآن الاعتماد على الذات العربية لبناء مستقبلٍ عربيٍّ أفضل، بدلاً من تكرار انتظار الترياق من الأجنبي الإقليمي أو الدولي، وهو ما يحدث على مدار قرنٍ من الزمن، ولم ينتِج إلاّ المزيد من المآسي والأزمات في المنطقة العربية.
لقد خرج النفوذ الأجنبي من باب المنطقة في منتصف القرن الماضي بفعل ثوراتٍ تحرّرية عربية، لكنّه عاد الآن إلى المنطقة من نافذة المعاهدات مع إسرائيل، ومن خلال نتائج الحروب العربية- العربية، وخطايا بعض الحكّام الذين استباحوا أوطاناً عربية أخرى أو حقوق مواطنين عندهم. لكن ذلك كلّه ما كان ممكناً أن يحدث بهذه الصورة الدموية التي نراها الآن في المجتمعات العربية لولا أيضاً وجود تخلّف فكري يسمح بالمتاجرة بالدين والطوائف، كما الانحطاط حاصل في مفاهيم وممارسات معاني الهُويّات الوطنية والقومية.
فما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ ليس عن مشاريع ومؤامرات خارجية فقط، أو عن خطايا حكومات وأنظمة فحسب، بل أيضاً هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين والسياسيين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي.
إنّ الأمَّة العربية مثقلةٌ الآن بالجراح، والدم ينزف من شعوبها بفعل صراعاتٍ أهلية، وليس نتيجة معارك مع عدوّها الإسرائيلي المشترَك الذي استفرد الآن بالشعب الفلسطيني، ويمارس عليه العدوان والقتل والدمار، ويواصل الاستيطان والتهويد للأراضي الفلسطينية وللقدس الشريف، بينما العرب منشغلون بأنفسهم وبصراعاتهم الداخلية وبمصالح فئوية لهذا الحاكم أو ذاك المعارض..
وعوضاً عن أن يسود العالم ما قاله السيد المسيح (عليه السلام) بأنّ «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة»، نرى عالم اليوم قد تحوّل إلى: «في السماء طائرات الناتو.. وعلى الأرض الإرهاب»!. أليس هذا ما حدث ويحدث الآن في أفغانستان واليمن ودولٍ إفريقية، إضافةً إلى العراق وما يمكن أن يحدث بعده في أمكنةٍ أخرى؟!. فلا «قنابل السماء»، ولا «إجرام الإرهاب على الأرض»، بوجهيه «الداعشي» و«الصهيوني»، هو الذي سيبني أوطاناً عربية موحّدة، أو مستقبلاً زاهراً لمن هو آتٍ من أجيال.
Leave a Reply