«من جعبة الذكريات»
حلقات أسبوعية
بقلم الصحافي الحاج علي عبود
حينما خرجت من «بطن» الطائرة الصغيرة التي أسميتها اليمامة لخفتها وسهولة إقلاعها وهبوطها، تنفست بارتياح حامدا الله تعالى الذي كتب لنا السلامة، سلامة الهبوط والوصل بخير، نظرت يميناً ويساراً فإذا بالبحر كما بدا لي، وكما رأيته يحيط بمياهه الصافية جزيرة تاجوراء من جوانبها الثلاثة، أما الجانب الرابع فقد كان البحر يتصل إتصالا وثيقاً بالأرض وليس بين البحر واليابسة سوى حاجزا بسيطاً لمنع مياه البحر من الوصول إلى عرض الشارع الرئيسي ليأتي بعده المدرج حيث هبطت فوقه الطائرة وقد كان هذا المدرج مسفلتا بشكل جيد وكان بإمكان سلطات الدولة أن تعبد هذا الشارع الرئيسي في الجزيرة وتجعله شارعاً تجارياً هاماً وأن توفر له وفيه كل أسباب الرعاية والعناية التامة طالما أن «الزفت المحترم» قد وصل إلى أرض المطار ومدارجه، فمن المهم جدا أن يُعبد هذا الشارع الرئيسي للجزيرة رحمة بالعباد وبالمواطنين والزائرين والسواح والصحافيين وحماية لهم من الغبار والتراب والرمال المتطايرة حبيباته نتيجة لمرور السيارات وغيرها، وكان الله يحب الأوفياء لأوطانهم وفاء تاماً، كما يحب المحسنين…
وبعد إستراحة قصيرة اتصلت هاتفيا من الفندق بمقر السلطان عيدروس، وجاء الجواب أنه على وشك الوصول وهو في طريقه إلى مقره الرسمي.
مع السلطان عيدروس
رحب بي السلطان، بعد أن التقينا في مقره ترحيباً أخويا كريما، فهم وأن كانوا أفارقة الشكل واللون واللغة، ألا أنهم يعودون في الأصل إلى جذور عربية إسلامية أصيلة، ويحافظون على صلات طيبة ويرتبطون بكل عادات العرب كالحميّة والشهامة والمروءة والوفاء وكرم الضيافة. وبعد أن علم السلطان أنني في الفندق أرسل سيارته لتقلني إلى دار السلطنة ومقرها الرئيسي. وفي مكتبه كان لي معه لقاء تحدثنا خلاله في أمور تتعلق بظروف جيبوتي والسلطنة، وعن علاقة السلطان برئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وقدم لي تفصيلا جميلا عن التعاون القائم بين المسؤولين الكبار والسلطان.
دعاني السلطان في اليوم التالي لمرافقته في زيارته لبعض المشاريع الزراعية في الجزيرة، فرأيت ساعتئذ زراعة ناجحة وأرضا مستصلحة ومزروعة، وعدتُ مقتنعاً أن الأرض حين يتم إستصلاحها وزرعها، فإنها تعطي ثمارها، خاصة أن كانت العناية بها من قبل القيمين عليها عناية مدروسة، وقائمة على أسس علمية حديثة ومتطورة. وفيما كنت أتحدث مع السلطان في مكتبه تلقى إشارة تلفونية مفادها أن السفير الفرنسي ومعاونه على وشك الوصول إلى مطار الجزيرة تاجوراء، هنا دعاني لمرافقته إلى المطار ليكون هو ونائبه وكاتب هذه الحلقة باستقبال السفير الفرنسي وبعض الموظفين.
وصول السفير الفرنسي ومعاونه إلى المطار
بعد وصول الضيف ومن معه تحرك السلطان إلى حيث سيحلّ السفير في منزل حديث مخصص للزوار والضيوف.
وبعد وقت قليل، كان لي لقاء خاصاً مع السلطان عيدروس. تحدث خلاله عن بعض المشاكل التي تعترضه وتحول هذه المشاكل دون تمكنه من تحقيق أية مشروعات تنموية تساعد على التخفيف من أعباء الحياة الملقاة على كاهل المواطنين. كما تحدث عما تعانيه القارة الأفريقية من أزمات خانقة إقتصادية وسياسية ومالية وعما تعانيه شعوب أفريقيا من بطالة مدمرة ومن مجاعات تهدد الملايين من أبناء الشعوب الأفريقية في مجمل دول القارة الخضراء،
وكيف أن المال غير متوفرا بشكل دائم للإنفاق على تلك المشاريع للحد من تفاقم الأزمات.
هنا اقترحت عليه قائلا: لماذا لا يقوم فخامة رئيس الجمهورية وتقوم أنت معه بزيارات رسمية إلى دول الخليج العربي لتلتقوا بحكامها وأمراؤها وتقيمون معهم أمتن العلاقات بين جيبوتي من ناحية وبين هؤلاء الحكام والرؤساء والأمراء والملوك العرب ولتشرحون وتوضحون لهم حقيقة ما تعانيه جمهورية جيبوتي العربية الإسلامية من مشكلات، وما تنوون تحقيقه من مشروعات تنموية وإقتصادية وإجتماعية وأن ما يعترضكم هو قلّة وفرة المال فقط، وتعقدون معهم الإتفاقيات التي تساعد جيبوتي على مواصلة السير قدماً في تحقيق كل ما تتمنون تحقيقه.
قال بعد أن سمع كلامي: يبدو لي أن هذا الأمر ممكناً تحقيقه في ظروفنا هذه، أكثر من أي يوم مضى، لكنه يتطلب التنسيق بشكل كامل مع فخامة رئيس الجمهورية ومع دولة رئيس الوزراء، وتحضير جميع الملفات المتعلقة بتلك المشروعات التي لم تكتمل حتى اليوم.
وأول تلك الملفات، هو ملف العلاقات الجيدة التي ترتبط بها جمهورية جيبوتي مع العديد من دول الخليج والدول العربية التي تشدنا إليها جميعاً أفضل العلاقات الدبلوماسية والأخوية وأمتنها.
قلت للسلطان عيدروس: هل يزوركم السفير الفرنسي دائماً في تاجوراء وما هي أهداف تلك الزيارات يا ترى؟
قال: ليست هي المرة الأولى، بل ربما كانت الثالثة خلال بضعة أشهر، ومعلوم أن علاقتنا مع فرنسا علاقات جيدة جدا لأن بيننا وبينها إتفاقيات صداقة وتعاون، ولا تزال فرنسا تقدم لنا الدعم المادي واللوجستي، وتقوم بحماية حدودنا ضد أية عمليات قرصنة تستهدف البواخر – بواخر الشحن والركاب – التي ترسو في ميناء جيبوتي. ولدينا معاهدة عسكرية تتولى بموجبها فرنسا الدفاع والحماية التامة عن مرافقنا التجارية الهامة كالميناء والمطار، وكل المنشئات العسكرية الوطنية، وتقوم فرنسا بتعزيز قدراتنا العسكرية وتدريب قواتنا وإمدادنا بكل إحتياجاتنا العسكرية كالسلاح وغيره. وكل ما من شأنه أن يساعدنا على فرض هيبة القانون وحفظ النظام تنفيذاً لبنود الإتفاقات الخاصة بهذا الشأن.
سألته: هل لا يزال الجيش الفرنسي مسؤولا عن حماية كل ما ذكرته آنفا؟
قال: نعم، ولا زلنا نعتمد على فرنسا وعلى دعمها السياسي والعسكري ولا تزال الأمور سائرة سيرا طبيعياً وهادئاً حتى اليوم، وليست لدينا أية مشاكل مع أحد وخاصة دول الجوار في القرن الأفريقي كما أننا نحترم حدود كل دولة نتجاور معها شئنا أم أبينا .. فنحن نحترم كل العهود والمواثيق القائمة بيننا وبينهم، والكل يهدف إلى إستمرار الإستقرار في هذا الجزء الشرقي من القرن الأفريقي كي يعم الهدوء والتآخي والسلام التام.
قلت: وهل تتقاضى جيبوتي تعويضات مالية من فرنسا مقابل إستخدامها للميناء البحري في جيبوتي، وإستخدامها بعض المرافق العامة كالمطار والقاعدة العسكرية الفرنسية هنا وبناء غير هذا من القواعد العسكرية الأخرى، وذلك منذ ما قبل الإنفصال عن فرنسا وبعد هذا الإستقلال حتى يومنا هذا؟
قال: أعتقد أن ما بيننا وبين فرنسا من معاهدات وإتفاقيات وعلاقات طيبة، وقد ناقشنا هذا في تلك الإتفاقات وهو متفق عليه، وهذا ما فيه من ضمان لحقوقنا السيادية، وما يكفي لجيبوتي أن تعيش متمتعة بكل أسباب العزة والكرامة والإستقلال.
قلت: وليسمح لي جناب السلطان أن أعود به إلى الوراء، لأقول: ماذا كان رأي المعارضة الوطنية لهذا كله، هذه المعارضة التي تضم نخبة من السياسيين الوطنيين، وجلّهم من ذوي الكفاءات العلمية والسياسية وبشكل جيد .. وكررت: ماذا كان رأي هؤلاء جميعاً. وما هي مواقفهم مما ذكرت جنابك بشكل خاص؟
قال: لقد عُقدت عدة مؤتمرات مع مختلف الهيئات والأحزاب الوطنية وتمت مناقشة جميع الأمور التي ورد ذكرها آنفا .. كما تم التوافق على كثير من الأمور التي تضمنتها تلك الإتفاقات.
وقال: وجيبوتي اليوم تعيش حالة إستقرار ملموس ودائم، فهي لا تميز بين هذا المواطن أو ذاك، ولو كان منهم من ينتسب إلى فريق آخر، فالجميع أمام القانون سواء أمام الحقوق، وأمام الواجبات، والكل ينضوي تحت لواء خدمة الوطن والدفاع عنه وعن إستقلاله وسيادته مهما كلف الأمر من دماء وتضحيات.
وقد اقام سلطان سلطنة تاجوراء حفلة غداء على شرف سفير فرنسا ومعاونه، حضرها لفيف من الموظفين الكبار في السلطنة وكانت مناسبة لمعرفة السلطنة وشعبها معرفة بشكل جيد.
أسود ونمور مدعوون لحضور حفل زفافـي!
منذ أكثر من عشرين عاماً فقدت إنسانة عزيزة على قلبي ومنذ ذلك التاريخ وأنا أعيش وحيدا، أحببت أخيرا أن أضع حدا لهذه الوحدة التي أعيش في ثناياها مرغماً وقررت أن أبحث عن شريكة لحياتي وأين؟ في أفريقيا.
وخلال تجوالي وتنقلاتي في دول أفريقيا الوسطى، عثرت على ما كنت أبحث عنه، بل عثرت على ضالتي، وهي فتاة في عمر الورود، جميلة الطلعة والمحيا، سمراء اللون، وجه جميل، فضلا عما ورثته عن أبيها اللبناني الأصل من خفة في الدم وظل خفيف. هنا قررت، ومعي أحد الأصدقاء يعمل في السفارة اللبنانية في البلد الذي كنت أزوره، قررت أن أطلب يد هذه الفتاة من أهلها.
وهذا ما حصل بالفعل! وانتشر الخبر، بأن عريسا سيطلب يد الفتاة من أهلها، وفي اليوم المحدد، كنت والصديق نزور منزل هذه العائلة فالأب من لبنان، والأم أفريقية الأصول والفروع، فإذا بمفاجأة مذهلة ومخيفة تنتظرني في منزل أهل الفتاة، ورأيت حشداً من الناس الأفارقة يلفت النظر، ولما استفسرت عن وجود هذا الحشد من الأفارقة بألبستهم الملونة وبوجوههم السمراء، قيل لي لحظتئذ أن هؤلاء الناس جزء من قبيلة أم الفتاة وهي أفريقية وأن هذا الجزء من القبيلة عرف أن الفتاة على وشك الزواج من شاب جاء ليطلب يدها من أهلها، هنا حدثت نفسي قائلاً: نحن لم نتفق بعد مع والدي العروس، ولم نلتزم حتى اللحظة بأي أمر من الأمور، لذا قال لي أحد الذين يعيشون في أفريقيا، ويعرفون عاداتهم وطباعهم، أن قبيلة العروس، ما أن تشتم رائحة زواج ما، فإنه من المؤكد أن تقوم القبيلة – قبيلة الأم – بعملية إجتياح المنزل – منزل أهل العروس – وكذلك الحي الذي تسكن فيه عائلة الفتاة المرشحة للزواج، فتأتي أفواجاً من الأهل والأقارب ويقيمون في منزل أهل العروس وما حوله من ساحات وزوايا فيفترشون الأرض. ويصبح من الواجب حكما على أهل العروس أن يقدموا لهؤلاء الغزاة الأكل والشرب والمشروب وكل ما يلزم ويسد حاجاتهم وذلك طيلة أيام قبل وعند إتمام عملية الإرتباط بين العريس والفتاة وأهلها. هنا قال لي صاحبي: لقد وقعنا في ورطة كبرى؟
قلت: أخبرني شو القصة.
قال: دع الأمر، حتى يتم اللقاء بيننا وبين والد الفتاة الذي بات أفريقياً أكثر من الأخوة الأفارقة، وسترى!!
جاء والد الفتاة ومعه والدتها، أما الفتاة فقد بقيت في غرفتها، فاستقبلنا بوجه بشوش، ومرحباً بنا ترحيباً جيدا، وعرفناه بما نبغي وما نريد، وأن كان ما تم من حشد لأصدقاء العائلة، أبناء قبيلتهم، يوحي بأن الأمر قد إتخذ مساراً لا بأس به، وأن الأمر بات قيد التنفيذ قبل الموافقة بمراحل وأنه لم يبقى إلا وصول الشيخ المأذون ليقوم بكتابة عقد الزواج بين الطرفين.
المفاجأة المذهلة
وجه صديقي هذا سؤالا لوالد الفتاة قائلا له: ما هي طلباتكم، بعدما سمع منا طلباً ليد الفتاة إبنته؟ قال والد الفتاة: ليس لنا أية طلبات أبدا، إنما إسمحوا لي لحظة، وتركنا في الصالون، ودخل إحدى غرف المنزل، ليعود بعدها حاملا بيديه ثلاثة رماح، مسنونة رؤوسها كالتي تشبه السكاكين القاطعة، تقدم مني ومن الصديق ليكرر أمامنا أنه وعائلته ليس لهم أية طلبات كالمهر والمقدم والمؤخر والشبكة كما هي العادة في محيطنا العربي وإنما لديهم طلبا واحدا فقط!
فيا لقناعة هؤلاء الناس ما أكبرها! وما أحلاها!
قلت له: تفضل!
أخي القارئ، أرجو أ، تمسك أعصابك يا أخي، وقف الوالد وبين يديه ثلاثة رماح وكأني به يستعد لعملية مصارعة مسلحة مع عدو كبير، وقال لنا مخاطباً: نحن لا نريد شبكة، ولا مقدما أو مؤخراً أو أية هدية مالية أبدا.
قلت له: هذا فهمناه وماذا بعد؟
قال: إنما نريده من العريس أن يأخذ هذه الرماح الثلاثة ويتفضل بالتوجه إلى قلب الغابة ليصطاد لنا أسداً، ونمراً، فقط. ويأتينا بهذا كله، إلى المنزل ويقدم لنا الأسد الذي اصطاده، مع النمر، هذا هو مهر إبنتنا يا سادة يا كرام، فقط، ولا نريد أي شيء زيادة.
قال لي صديقي: يعني مطلوب منك يا علي أن تتوجه إلى الغابة القريبة من هنا وهي المليئة بالأسود والنمور والقرود والأفاعي التي تبتلع الخروف بدون أن تغص أو تصاب تلك الأفاعي بسوء هضم أو تتعثر في إبتلاع الخروف أبدا، عليك أن تتوجه ومعك هذه الرماح الثلاثة لتصطاد الأسد والنمر، وتأتي بهم ساعتئذ وتقدمهم على مرأى ومسمع من أبناء القبيلة التي غزتنا بعدّها وعديدها وأقامت في المنزل وحوله فارضة علينا أن نقدم الأكل والشرب والفواكه فضلا عن القهوة والشاي والماء المثلج. ساعتئذ يتم العقد بينن_ننا والإتفاق معك على أن نزوجك إبنتنا، وعلى سنة الله ورسوله.
إذن مهراً لإبنتك أسداً ونمراً فقط ولا مانع من أن تضيف إليهما فيلا وقردا وشوية أفاعي سامة وقاتلة وعدد قليلا من الذئاب المتوحشة أليس كذلك؟
قال: نعم، قلت لصاحبي، أطلب لي الإسعاف يا صاحبي فوراً قبل أن ينفجر رأسي وقلبي وأن تنفجر مرارتي وكليتي وقبل أن يفترسني ذلك الأسد المسكين المنوي إصطياده مع نمر شرس، وقبل ان تُطحن عظامي بين أنياب الأسود والنمور والقرود.
وحين وصلت سيارة الإسعاف صعدنا فيها وخرجنا، بلا عودة والحمد لله، ولن نعود بعد اليوم أبداً، وصرفنا النظر كلياً عن الزواج وعمن سيتزوجون وبذلك بقينا أحياء لليوم والحمد لله العلي العظيم ولنا عودة لأفريقيا بإذن الله.
Leave a Reply