«من جعبة الذكريات» حلقات أسبوعية
قبل أن أروي قصة إغتيال المغترب ورجل الأعمال قاسم ضاهر وكيفية حصول هذه الجريمة البشعة النكراء أود القول أنني عرفت المغدور قاسم ضاهر، يوم التقيته في دار السفارة اللبنانية وفي مكتب السفير اللبناني يومئذ محمد ضاهر، في أبيدجان. وكان بيننا تعارفاً أثمر عن قيام صداقة نمت وكبرت مع مرور الأيام، وقد توطدت هذه الصداقة، إثر لقاءات متكررة، تارة في فندق أيفوار في العاصمة أبيدجان. وتارة أخرى في دعوات للعشاء، التي لا يخلو منها أي أسبوع والتي كانت تقام في مناسبات وطنية وعامة على حد سواء.لقد أتيح لي أن أزوره في مكتبه وفي الشركة التجارية الكبرى التي يملكها ويديرها منذ سنوات، والتي كانت تساعده زوجته الفاضلة في العديد من الأمور الإدارية والمالية المحدودة، كنت أزوره مرات ومرات، وكنت أسرق منه الوقت في كل زيارة، لا أقل من ساعة أستمع خلالها إليه، وهو يحدثني عن عبقرية ونبوغ الزعيم الراحل أنطون سعادة مؤسس وزعيم الحزب القومي السوري الإجتماعي، وكنت أضيف إلى ما يقوله لي وهو يُعدد مزايا هذا القائد الفذ، بعض ما توفر لديّ من قراءات كنت قد قرأتها فيما مضى عبر كتب ومجلات كانت تصلني، سبق لها أن عالجت الكثير مما يتعلق بالعقيدة السورية الإجتماعية وفلسفتها وما تنطوي عليه هذه الفلسفة من قيم مثلى شارحة المبادئ والأسس القومية التي ترتكز عليها كقاعدة صلبة لعقيدة متقدمة جدا بالنسبة للعقائد الأخرى.لقد دامت صداقتنا مدة طويلة، وكانت هذه الصداقة تنمو مع مرور الأيام، حتى صرنا نلتقي أكثر من مرة في كل شهر، تارة على مائدة الغداء، في أحد مطاعم العاصمة أبيدجان المشهورة بتقديم أطيب أنواع السمك الأفريقي اللذيذ. المقلى مع الجمبري أي القريدس، حيث كنا نتابع الحديث الذي كثيرا ما كان يدور حول قضايانا اللبنانية والعربية، وما يعيشه الشعب اللبناني وأمة العرب من هموم ومتاعب سياسية وإقتصادية وإجتماعية عامة.كان قاسم ضاهر يمتلك ثقافة واسعة، وكما فهمت منه يوماً أنه واكب بعض الحركات الفكرية لكنه لم يتفاعل معها تفاعلاً ينبئ بالقبول والرضى الكامل، إنما كان يرى فيها ضوءاً خافتاً يبدو في آخر النفق الذي أخذت أمتنا بعبوره وهي تسعى جاهدة لبلوغ أهدافها، لتتمكن بعدها من تحطيم الأغلال والقيود. فاجأني يوماً وكنت أزوره في مكتبه قائلاً: غداً سأغادر أبيدجان إلى فرنسا ومن ثم إلى لبنان. وبالفعل فلقد طار في اليوم التالي إلى باريس، وبعدها توجه إلى الوطن الحبيب، ليعود بعدها إلى أبيدجان.
موعد مع القتلوصل إلى أبيدجان مساء يوم الخميس، وبقي طوال يوم الجمعة في منزله مستريحاً من عناء السفر وصباح يوم الجمعة توجه إلى حيث مقر الشركة، ولم تكن الساعة قد تعدت التاسعة صباحاً بعد. أوقف سيارته عند مدخل الشركة، وترجل منها ليتجه نحو السلم المؤدي إلى الطابق العلوي وقد رد تحية بعض الذين عرفوه ثم حيوه وتابع سيره صعودا لدرجات السلم، حيث يقوم مكتبه في الطابق العلوي القائم فوق مستودع كبير وواسع وعريض وفيما كان يصعد درجات السلم المؤدي إلى مكتبه شعر بحركة غير عادية وحين التفت ليرى ما يجري خلفه وجد أن وراءه خمسة رجال وقد وضعوا الأقنعة على وجوههم وهم يحملون السلاح – رشاشات – هنا وقف ليتأكد مما يجري وليعرف من هم هؤلاء الذين يقتحمون عليه شركته ويلحقون به وماذا يريدون؟ وهم على هذه الحالة البشعة وقف للحظات وهو لا يزال أمامه ثلاث درجات من السلم كي يدخل باحة المكاتب القائمة أمامه. وبلحظات كانت الرشاشات قد صوبت نحو صدره وأخرى وضعت فوهاتها على ظهره من الخلف قائلين له: أن قمت بأية حركة فلسوف نطلق عليك النار، ثم طلبوا إليه الدخول إلى مكتبه فاذعن لطلبهم هذا وأمروه أن يفتح لهم الخزنة حضّر مفتاح الخزنة وهم أن يفتحها لهم قالوا له: لا، ليست هذه الخزنة هي التي نريد، وإنما نريد أن تفتح لنا الخزنة الكبيرة التي هي في الداخل فنفذ ما طلبوه منه، هنا وجدها سانحة مناسبة وسريعة وهو يُحضر مفاتيح الخزنة الكبيرة أن يضغط على زر صغير لجهاز صغير يضعه دائماً في جيب قميصه على الجهة اليسرى من الصدر وهذا الجهاز هو جهاز إنذار موصول بأجهزة الأمن المكلفة بحراسة الشخصيات الهامة ورجال الأعمال مثل قاسم ضاهر وغيره، هنا وفي هذه اللحظة رآه أحدهم وهو يضغط على زر الجهاز الذي يضعه في جيب قميصه، والموصول بأجهزة الإنذار لدى مكاتب القوة التي تتولى الحراسات الخاصة فأدرك هذا بأن أمرهم قد انكشف وتأكد لديهم أن عمليتهم هذه لم تتكلل بالنجاح الذي كانوا يتمنونه، هنا ما كان من هذا الذي رأى قاسم ضاهر وهو يضغط على زر الجهاز – جهاز الإنذار – إلا أن أفرغ في صدر قاسم ضاهر أكثر من طلقة، فأصابت القلب إصابة بليغة – وإن هي إلا لحظات حتى كانت القوة قد وصلت والخمسة المسلحين يهرولون نزولا على درجات السلم هرباً بعد أن انكشف الأمر، وعند باب الشركة ومدخلها الواسع العريض دارت بين المسلحين الخمسة ورجال الأمن المزودين بأحدث أنواع الأسلحة معركة حامية لعلع فيها الرصاص قتل من الخمسة المسلحين أربعة، وأصيب الخامس برصاصات في بطنه وساقه كما أصيب أحد رجال الحرس الخاص برصاصة في فخذه أما المقنع الخامس الذي لم يمت حاول الهرب، إلا أن القوة الخاصة كانت له بالمرصاد، فاعتقل وأحيط بحراسة مشددة أما الأربعة الباقون فقد لفظوا أنفاسهم بعد أن مزقت صدورهم ورؤوسهم زخات من الرصاص. لم يمض على إطلاق الرصاص لحظات حتى كان المكان قد غص بوحدات من الجيش والأمن والبوليس، وسيارات الشرطة وأكثر من سيارة إسعاف، وبدت الساحة وكأني بها ساحة معركة. وعلى الفور نقل قاسم ضاهر الذي أصيب بأكثر من رصاصة إلى أكبر مستشفيات العاصمة أبيدجان، وهو لا يزال ينزف بالرغم من جميع الإسعافات الفورية التي قدمت له من أجل إيقاف النزيف. وفي الطريق إلى المستشفى قال قاسم ضاهر لمن كان يحيط به في سيارة الإسعاف: أعيدوني إلى المنزل فلن أعيش حتى أصل إلى المستشفى! وتمتم بكلام متقطع: إذا ما لاقيت وجه ربي انقلوني إلى لبنان وادفنوني في بطن أرضه الطاهرة وفي النبطية بالذات، قال هذه الكلمات القليلة ثم أغمض عينيه.لقد انتشر خبر إغتيال المغترب قاسم ضاهر إنتشار النار في الهشيم، وتأكدت وفاته، بعد أن أمت المستشفى العديد من الوفود اللبنانية، فأعلن حينها إضراباً عاماً شمل جميع المحال التجارية التي يملكها عرب وأبناء الجالية اللبنانية إستنكارا لهذه الجريمة البشعة، وتحولت بعدها العاصمة أبيدجان إلى مدينة مقفلة تماماً حزنا وإستنكاراً لإرتكاب هذه الجريمة النكراء ضد أحد أبناء الجالية اللبنانية الأبرار.
أسباب الإغتيال وأهدافهليس من السهل على المراقب أن يتعرف إلى أسباب الإغتيال الذي أودى بحياة امرئ حفل سجله الإنساني بالعديد من المواقف الإنسانية، تاركاً خلفه بصمات تشير بوضوح إلى أن ما يؤديه المرء لأمته وشعبه من آيات بينات تنطق بالتضحية ونكران الذات، هي السبيل الأشرف لولوج واحات الخلود، لذا لا نملك هنا إلا الأسى والأسف الشديد على غياب أبنائنا الأبرار في المهاجر والمغتربات متمنين لآل ضاهر وإلى شقيقه أحمد أن يلهمهم الله جميل الصبر والسلوان. شهر مضى..هذا هو الشهر الأول الذي أمضيته في العاصمة العاجية أبيدجان وقد التقيت خلالها بالعديد من رجالات الإغتراب اللبناني الذي أمضوا زهرة شبابهم في تلك الديار الحارة جدا، والجميلة جدا ولقد عشت معهم وشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم وناقشتهم في كثير من المشاكل الإغترابية فضلا عن المتاعب العديدة التي يعاني منها المغترب اللبناني في دنيا الإغتراب.دعيت يوماً لحضور حفلة زفاف نجل أحد الأصدقاء أقيمت في قاعة أحد الفنادق الفخمة، التقيت خلالها بأفواج من المغتربين الذين أنعم الله عليهم بالخير الوفير. وبدا ذلك جيدا عبر مظاهر الكرم العربي والسخاء اللبناني العريق في تكريم الضيوف على أنغام الموسيقى الشرقية وهي تصدح ليبدأ بعدها الرقص الغربي، ولنرى عشرات «الصبايا» اللواتي تجاوزت أعمارهن عتبة الخمسين وكيف أنهن كن يتمتعن بخفة ورشاقة ولا الصبايا بنات العشرين. لقد جاءتني احداهن تدعونني مشكورة لحسن ظنها بي، إلى رقصة قيل عنها أنها رقصة الجيرك فاعتذرت لها لجهلي كل أنواع الرقص ثم جاء دور الرقص الشرقي وبدأ الرقص والتمايل على أنغام «هزي يا نواعم» وأيضا دعيت من قبل احداهن اللواتي أبدعن الرقص – وهن قد تجاوزن العقد الخامس وتفوقن على غيرهن من الصبايا اللواتي لا زلن تحت سن العشرين.هنا تذكرت قصة حدثت للكاتب العالمي برناردشو وكما هو معروف أنه كان يمتلك لحية كثة لم يشذبها في حياته ولو مرة واحدة، كما أن له أنفاً أفطساً تخشى النساء كلهن الإقتراب منه ولو صدفة. جاءته إحدى الحسناوات وطلبت إليه أن يراقصها، طلبت منه ذلك بشجاعة متناهية فامتثل لأوامرها، وبدأ يراقصها وذراعه تلتف حول خصرها الرشيق. هنا قالت له هذه المرأة الشجاعة: مستر برناردشو، أتمنى عليك أن تقبل زواجي منك وأنا أقبل زواجك مني! سألها: ولماذا يا سيدتي تقدمين على هذه التضحية الجسيمة. قالت: كي نُرزق بطفل يأتي بذكائك أنت وبجمالي أنا! قال لها برناردشو: أخشى أن نحن ارتكبنا مثل هذه الجريمة الحمقاء أن يأتي الطفل بجمالي أنا وبذكائك أنت! هنا انفرط العقد وكل راح في سبيله.
Leave a Reply