ترى هل الأم كالوطن، أم الوطن كالأم تسكن في شغاف القلب كدقاته. لا يمكن مغادرتها إلا بالموت؟ كلما اقترب عيد الأم، يكبر الحنين حدّ البكاء لذلك التراب الغالي. تراب الوطن، الذي صار أغلى لإحتضانه جسد أمي الحبيبة التي غادرت قبل الوعد لتغمض عينيها الجميلتين إلى الأبد.
نهر من الدموع ينهمر من عيوني كلما أغمضتها لأرى صورة أمي محفورة لا تغادر الحدقة. تجرني الذاكرة إلى الوراء، لأكثر من خمسين سنة. تختزل الصور والمشاهد كلها وتتركز على أمي. أراها تنهض كل يومٍ في الصباح الباكر لتبدأ دورة الأعمال الشاقة في البيت والحقل بالإضافة لجيش من الأطفال. ولا تنام مساءاً إلا بعد أن ينام الجميع. كل يوم على مدار أيام السنة. تعيش في بيت قديم، غرفتين واسعتين كساحة صغيرة. سقفه من تراب، أبوابه وشبابيكه لا ترد حراً ولا برداً، خلف البيت أسطبل فيه بقرتين وحمارة وبضع غنمات وقن للدجاج.
كانت مهمة أمي الأساسية جعل هذا المكان مناسباً للعيش والسكن لكل هذه المخلوقات. لا كهرباء ولا ماء بارد أو ساخن يجري بالمواسير. لا ثلاجة، لا غاز، لا غسالة أو نشافة، لا سيارة تقف أمام البيت تحت الطلب، لا تلفون حامل أو محمول. لا أم ولا أخت تشكوهمها. تعيش مع أبي الذي كان يمارس الدكتاتورية الشرقية معها، والديمقراطية على الطريقة الغربية مع الأولاد وخصوصاً البنات.
عليها تطبيق اللوائح والنصوص والشرائع وتنفيذ الأوامر بدون إعتراض. أما الأولاد، والبنات خاصة، لا تكليف في الأعمال الشاقة ولا قسوة ولا إكراه على عملٍ لا يُطاق. الكلام مباح والسؤال مسموع والإعتراض مقبول. أحياناً كثيرة كانت تحتج وتطلب منه المعاملة بالعدل وتخفيف الظلم عنها بالضغط علينا ولمساعدتها ببعض الأعمال في الحقل أو البيت أو على الأقل رعاية الصغار في العائلة. كانت كالذي يشكو همه وحيدا على نبع الصين. أو كما قال المرحوم عاصي الرحباني في إحدى مسرحياته: «حرية الرأي مكفولة. الشعب الو حق يصرح ويعترض، والدولة إلها حق تسكر أذنيها وما تسمع».
كان أبي يتحدى لقب الأيام ومرارة العيش وقسوة العمل الشاق في الحقل تحت وطأة الطبيعة العنيدة شتاءً وصيفاً. يتحدى ذلك بالبساطة والفكاهة والبسمة الشفافة في تعامله مع الجميع إلا أمي. كان يردد على مسامعها دائماً: «شو نفع الجلي والغسيل والتعب في التنظيف والعمل الشاق في الحقل والدخان؟ بدك ولادي يطعلوا أميين جاهلين مثلي ما يعرفوا يحكو الحرف؟ خليهم يتعلموا ليفهموا ويكون عندك عقل كبير وفهم كافي لتغيير نمط هذه الحياة الماشية غلط»!
في قرارة نفسه كان مقنعاً بأن العلم هو النور للخروج من عتمة الجهل والخوف من تغيير العادات والتقاليد البالية التي كانت تكبل عقول الناس والتخفيف من العمل المضني في الفلاحة وزراعة التبغ المرهقة على مدار السنة بدون أي مردود إقتصادي للتعب والمجهود. أمي كانت تدرك ذلك لأنها كانت من القليلات من بنات جيلها اللواتي تعلمن قراءة القرآن وتجويده. رغم ذلك كانت تعتبر المدرسة والعلم إهدار للوقت والمال الشحيح في زمن تعتمد الحياة القروية على كثرة الأولاد في العائلة. نادراً ما كان الأهل يسمح للصبيان بالذهاب إلى المدارس فكيف بالبنات؟ هذا الخلاف والتناقض بين أمي وأبي، جعلنا نحب أبي كأمٍ حنون، ونخشى أمي كأب صارم وقاسي. خسرنا الحب الطفولي الجارف نحوها. وجعل مسافة من الحياد بيننا. تغوص صور الطفولة البعيدة وأرى نفسي طفلة صغيرة أراقب أمي بعد إنتهاء عمل يوم طويل تخلع ثياب التعذيب كما كانت تقول، تتوضأ وترتدي ثوب الصلاة الأبيض. تبدو كالملاك بخفة ورشاقة تؤدي صلاة كلها خشوع وإيمان، حمداً وشكراً لله. لم تكن تطيل الصلاة كأبي، تركع وتسجد بإيمان وثقة بأن الله رحمن ورحيم. لا تطلب شيئا فقط الرحمة والستر. أحيانا كانت تختم بدعاء قصير. لم أكن أفهم كلماته كذلك عندما ترتل بعض الآيات من القرآن، وعيي لم يكن يسمح بإستيعاب ما تقول. لكن ذلك كان يشعرني بالاطمئنان والسلام يلف البيت وكل من فيه.
حينذاك كان الراديو سلواها الوحيد، يتنقل معها حيث تعمل وهي في البيت، تسمع الأخبار من إذاعة لندن ونشرة الأحوال الجوية من إذاعة إسرائيل. تنصت بانتباه وإهتمام لما يحدث حول العالم وجدول أعمالها اليومي يخضع لحالة الطقس من حيث المهم ثم الأهم.
الآن وبعد إعتزال لسنوات العمر الطويلة، بدأت أدرك وأستوعب لماذا كانت أمي قليلة الكلام والإبتسام. إن تكلمت فبصوتٍ عالٍ، كلمات مختصرة وواضحة كالأمر، وإن مشت فبقدمين صغيرتين تحملان جسداً صغير الحجم، تمشي بخطوات ثابتة وسريعة كمشي الجنود دائماً بانتباه ووعي، الخطأ ممنوع والوجع ممنوع. وأتساءل من أين لها تلك القوة البدنية والعقلية لتقوم بتلك المسؤوليات وتحمل العمل البدني الشاق. تعمل بجدٍ وإخلاص في خدمة الجميع بدون تذمر أو شكوى. هناك دائماً عمل آخر ينتظرها، تقوم به على أكمل وجه بدون إنتظار لشكرٍ أو تقدير. تفضل الإستماع على الكلام. لا وقت لديها للزيارات أو تقصي أخبار الضجة والثرثرة البلا طعمة مع الجارات كما تقول لأبي وهو يلاطفهن ويستمع لأحاديثهن، الوقت مسؤولية لا يمكن إهداره بما لا يفيد.
ومرت السنون بحلوها ومرها. كبر من كبر من الأولاد وتزوج من تزوج، وتحسن وضع البيت قليلاً وصارت الكهرباء والماء متوافران، انتهت الحرب الفيتنامية كما كانت أمي تتمنى، لكن للأسف لتبدأ حرب أشد قساوة في لبنان. كانت حرباً عبثية كما كانت تقول عنها، حرب صعبة شديدة الوطأة، قضت على طموحات جيل لديه العلم والعزيمة للبناء وجعل الحياة أقل خشنة وتعباً في تلك القرى النائية المهملة. زاد ذلك من أعباء القرية من العدو الإسرائيلي الذي لا يرحم. أمي، جعلها تشعر بالحزن والقنوط، مات أبي حزناً وقهراً على حقولٍ وكروم يحرقها الأعداء كل سنة وحسرة على الأولاد والبنات الذين تركوا البيت والوطن وهاجروا وتركوه وحيداً. وهو الذي أفنى عمره في حمل المشقة عنهم.
لم تغادر أمي البيت، رغم الإغراءات من الجميع لتلحق بالمهاجرين من أولادها، كالسنديانة ظلت صلبة وقوية تحمل الحزن في صدرها وحدها بدون شكوى أو تذمر. بقي أخي الصغير معها، لم يتركها، كانت ترى فيه عوناً وعكازاً بعد تعب وجهد ومعاناة. كان ولدها الأخير الذي اعتبرته هدية أعطاها الله إياه بعد عشر سنوات من عدم الحمل، ربته وهي كبيرة في السن، كان الوحيد الذي ضمته وأحبته ونوراً يضيء عتمة البيت بعد أن غادر الجميع ولم يغادرها. تلاحظه، وترى بأس الشبان الذين لم يتركوا الوطن، أسرى لملوك الطوائف وتابعين لرعاعٍ من أمراء الحروب ومعاصي الوفاء كان في صدرها خوف من أن تخسر الإبن الوحيد الباقي في دوامة الجنون السياسي والتناقض بين أبناء الوطن الأعداء.
لم يهزم أمي العمر الطويل وسنوات الشقاء والفقر. لم يهزمها قلة التقدير واللامبالاة من أبي وبعد الأبناء عنها. هزمها من جاء يبشرها باستشهاد ولدها الأخير ذو العشرون ربيعاً بعملية بطولية داخل الشريط المحتل الذي كانت تحتله إسرائيل من جنوب لبنان. رفضت تلك البشارة السوداء.
رفضت المواساة والعزاء بفقدان إبنها الأخير الذي ربته كل شبر بنذر للحياة وليس للموت. رفضت مدحها ورشوتها كأم لشهيد كي لا تصرخ بحزن قلبها وتبوح بأسى العمر الطويل الذي بدأ يبتسم أخيراً بوجوده معها. كانت أمي أتعس الأمهات في الحرب وبعدها. تعرف جسدها أن من يواسيها الآن، غداً سوف ينسى لحظة إنتهاء مراسم العزاء، وإستعداده للمواساة بعزاء لشاب آخر، ربته أمه مثلها بدموع المأتي. إستسلمت أمي ذلك الإستسلام الأبيّ، حملت في قلبها حزن الأمهات جميعا، سواء الفاقدات لأولادهن بأي صورة عبثية أو الأمهات المودعات أولادهن إما إلى المهجر أو إلى ويلات حروب جديدة.
هذه أمي التي رحلت وحيدة في البيت الذي أحبته والتراب الذي التصقت به والتي صارت واحدة من ذراته. قضت قبل أن أودعها وأقبل رجليها ويديها وأقول لها أجل يا أمي!
إليك يا أمي أهدي عيد الأم اليوم. وأقول لك نامي قريرة العين، لو رجعت الحياة إليك الآن لحمد الله، أن ولدك الشهيد لم يقض غدراً برصاصة طائشة أطلقها أحد الرعناء من أزلام مسؤول فارغ أطل بطلعته الغير بهية على إحدى شاشات التلفزة. ولكل الأمهات وأنا منهن أصلي عسى أن يكون المجهول الواعد بالكوارث والحرب من جديد على أرض الوطن، حرباً من الخيال لا واقع له، ولكل أمهات الكرة الأرضية الباكيات يوم عيد الأم لفقد حبيب أو عزيز، أتمنى لهن السلام والصبر، ولكل الأمهات الموجودات معنا في ديربورن والتي تتفنن المطاعم ومحلات الهدايا والورود بتقديم الهدايا لهن وإرضائهن أقول: كل عام وأنتم بخير.
ديربورن – ميشيغن
Leave a Reply