إنها من المرات القليلة النادرة التي تتوحد فيها مختلف المراجع السياسية والهيئات الروحية والقوى والاحزاب اللبنانية، وحسناً فعلت، على إدانة الهجوم الذي تعرضت له كنيسة “سيدة النجاة” في العراق واحتجاز رهائن وسقوط ضحايا. فمعمودية الدم في الكرادة وسط بغداد فرضت نوعاً من “التخدير” الكلامي المؤقت في “شبه الوطن” المتناحر منذ ولادته القيصرية على يد “الداية” الفرنسية، ومحاولة إعادة هذه الولادة عبر شرق أوسط جديد، حسب رؤية “ابي حذاء” دبليو ووزيرة خارجيته كوندي رايس، من رحم الدمار والمجازر الإسرائيلية في صيف تموز ٢٠٠٦. نحن ندين، كما على كل إنسان عاقل بدوره أن يدين، ما يحدث في العراق من فتنة طائفية وتفريغ للعراق من أبنائه المسيحيين، البلد الذي هو حصن إستراتيجي للعرب وقضيتهم المقدسة الأولى لما له من ثروات بشرية وفكرية وإقتصادية وعلمية أهدرها صدام حسين وزمرته ونظامه الدموي على مر السنوات. إن عراقاً عزيز الجانب موحداً بابنائه المسلمين والمسيحيين، يشكل خطراً كبيراً على إسرائيل مثلما يشكل السلام والتعايش الديني في لبنان نقمة عليها. كما إن المسيحيين في العراق هم ضرورة وقيمة حضارية كبيرة ودعامة أساسية ومكونا جذريا من مكونات النسيج الإجتماعي منذ القدم وبدء حضارة ما بين النهرين، فقد أسهم السريان في النهضة الفكرية والعلمية الإسلامية عندما ترجموا الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية كما أسهم الكلدان والأشوريون في النهضة التنموية الحضارية قديماً وحديثاً وفي إزدهار العراق كدولة متطورة وعصرية. لقد جمع العراق المجد من أطرافه لأنه غني بتعدده الديني الإسلامي- المسيحي حيث تقطن فيه أشرف المقامات الإسلامية كمقام الإمام علي والإمام الحسين (ع) إضافةً إلى الكنائس والمقامات المسيحية التاريخية. من هنا، ننظر إلى تفجير كنيسة “سيدة النجاة”، وقبل ذلك تدمير الإرهابيين لمقامي الإمامين العظيمين علي الهادي والحسن العسكري (ع) في مدينة سامراء، على أنه أكبر خدمة للصهيونية المعادية دوماً لتوافق الأديان خصوصاً الإسلام والمسيحية، والمروجة لأحادية الديانة اليهودية في أرض فلسطين المغتصبة التي تريد طرد سكانها الاصليين من فلسطينيي الـ١٩٤٨ إذا لم يحلفوا يمين الولاء لإسرائيل أما النظام الرسمي العربي فيشخر في نومه في حين أن فلسطين تتهود، والسودان يتعدد، والعراق يتبدد، ومصر فقدت دورها الطليعي القومي في عصر إختلال الموازين والمفاهيم حيث أصبح العدو صديقاً والعكس صحيح! فأية زعزعة للإستقرار الديني والأهلي في البلدان المجاورة لإسرائيل والمناقضة لوجودها، يمد إسرائيل بدم الحياة. لهذا تريد هدم المسجد الأقصى المبارك وتزيل معالم القدس الشريف وتطرد أي وجود للناصري يسوع المسيح (ع) وأنصاره ضاربةً عرض الحائط بكل المقدسات الإسلامية والمسيحية، ولهذا كان حلم إسرائيل منذ البداية قيام كيانات دينية متناحرة من حولها تكون بمثابة “إسرائيليات” متفجرة من الداخل يسهل عليها السيطرة بسهولة، والتحالف خصوصاً مع عتاة الكيانية اللبنانية من أمثال سعد حداد وأنطوان لحد و”حراس الأرز” و”التنظيم” (مؤسسه جورج عدوان)، وحتى “حزب الأحرار” الشمعوني الراعي للحد، وحزب العائلة المالكة “الكتائب”، من أجل أن تبقى سائدة وصاحبة اليد الطولى في هذه المنطقة المضطربة من العالم.
إن قتل العراقيين من ابنائنا المسيحيين هي مؤامرة إسرائيلية تستهدف دور العراق الحضاري والإنساني في المواجهة الشاملة مع قوى الشر الصهيوني، وتشويه مسألة حوار الأديان الذي هو النقيض لصراع الحضارات. والإجرام الذي ظهر في كنيسة “سيدة النجاة” لا يجيزه ولايقبل به أي دين سماوي أو عرف أو شرع مهما كانت الذرائع، فكيف إذا كان دين التسامح والعقل دين الإسلام الحنيف؟ أن ظهورالقوى الظلامية التكفيرية من أتباع “بن لا دين” هو مضرٌ للدين الإسلامي قبل غيره لأنه يشوه حقيقته الناصعة وصورته الطاهرة. وإذا كان لأهلنا المسيحيين في العراق من عزاء فإنهم توحدوا في الظلم مع اخوانهم المسلمين الشيعة الذين نكل بهم هؤلاء “البدون” دين. فالإرهابي الاردني المعروف بالزرقاوي حينما كان يصور عمليات ذبح الناس في العراق وقطع رؤوسهم بسكينته الحادة على الفضائيات كان أول ما يبتدأ بكلام “الحمد لله والصلاة والسلام على النبي الذباح القائل لقد جئتكم بشريعة الذبح”. النبي الكريم الذي يصفه القرآن بأنه رحمة للعالمين لا يعتبره الإرهابيون إلا نبيا جاء لذبح الناس، وهذا ما يفسر احتقارهم لأرواح الآخرين وتطاولهم على النفس البشرية في العراق وإزهاقها بابشع صور القتل. لقد فات زمن القادة المسؤولين من مبتدعي حوار الحضارات مثل سماحة الإمام السيد موسى الصدر (أعاده الله سالماً)، أنبل ظاهرة إسلامية سمحاء عرفها التاريخ الحديث، الإمام الذي قطع اعتصامه عن الطعام، إحتجاجاً على الحرب الأهلية العبثية المجنونة في لبنان، فقط من أجل أن يوقف مجزرة ضد المسيحيين في القاع وديرالأحمر في البقاع وحمى المسيحيين هناك بصدره وعباءته وعمامته. هذا هو الإسلام المحمدي الحقيقي، لا إسلام الزرقاوي وزمرته ولو كان، للأسف، لم يوجد في هاتين القريتين من يذكر أفضال الإمام الصدر في إنقاذ حياتهم لأنهم ينتمون بتعصب إلى فريقٍ يميني ميليشيوي.
سمير جعجع كان أحد المستنكرين للمجزرة البغدادية، مما يلح علينا إستذكار مفارقة جريمة “كنيسة سيدة النجاة” اللبنانية، التي إتهم فيها جعجع بتفجيرها من ضمن جرائم أخرى موصوفة. قال جعجع “ان على الحكومة العراقية واجب ومسؤولية لاتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على امن المسيحيين لأنهم لم يُهددوا مرةً أمن أي مواطن آخر في العراق”، مبرهناً مرة جديدة أنه ما يزال “يهدس” بأمن “المجتمع المسيحي” على الطريقة الميليشياوية التي جرت الويلات على مسيحيي لبنان وأدت إلى قتلهم وتهجيرهم، وأين كان نفس هذا “الأمن” والحرص الجعجعي على الأرواح المسيحية في كنيسة “سيدة النجاة” في زحلة؟ الله ينجينا من الأعظم!
Leave a Reply