وليد مرمر – لندن
«أنا رباح المدهون… الساعة 12 ليلاً جاء اتصال هاتفي لجارنا يأمره بإخلاء المبنى السكني وإعلام بقية السكان بهذا، وفيما كان الجميع يهرولون على الأدراج بدأت المقاتلات بقصف الحي مدمرة ثمانية مبان على رؤوس ساكنيها من الأطفال والنساء والشيوخ».
تلك كانت شهادة أحد الناجين من بلدة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة، حيث قامت إسرائيل بتسوية عدد كبير من مبانيه في الأرض مرتكبة مجزرة جديدة في حق عدد غير معروف من المدنيين.
لكن ما هو سبب التصعيد الخطير الذي تشهده الأراضي المحتلة؟
في عام 1956 استقرت 28 عائلة في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية بعد أن تم تهجيرهم من منازلهم في حيفا وغيرها إبان نكبة 1948 وقيام ما يُسمى بدولة إسرائيل. وقتها، تم الإتفاق بين العائلات المهجرة و«الأونروا» ووزارة الإنشاء والتعمير الأردنية –بحكم إدارتها لمناطق القدس الشرقية قبل حرب 1967– على توفير مساكن بديلة للأسر المهجّرة في حي الشيخ جرّاح لقاء دفع أجور رمزية على أن يتم نقل الملكية لتلك العائلات بعد انقضاء ثلاث سنوات.
ورغم أن بعض منازل الحي يعود تاريخ بنائها إلى عام 1885 إلا أنه ومنذ سبعينيات القرن الماضي ادعت شركات استيطانية ومجموعات يهودية امتلاك هذه المنازل وقررت اللجوء للقضاء الإسرائيلي الذي حكم بعد سنوات طويلة لصالح المستوطنين ضد السكان الأصليين.
هكذا أصبحت قضية الشيخ جراح محور الاضطرابات في القدس الشرقية مؤخراً عندما شهد الحي، يوم 6 مايو الجاري، اشتباكات عنيفة بين الشرطة الإسرائيلية والسكان الفلسطينيين الذين كان يتم استفزازهم يومياً من قبل المستوطنين. وترافق ذلك في اليوم التالي مع اقتحامات للمسجد الأقصى من قبل الجنود الإسرائيليين فوقع عدد كبير منهم جرحى إثر اشتباكات مع المصلين بعد أن قامت قوات الاحتلال باعتقال عدد كبير من المعتكفين في المسجد.
شاهد ملايين المسلمين قوات الاحتلال وهي تدنس باحات المسجد الأقصى وترهب المصلين وتعتدي عليهم موقعة العديد من الإصابات في صفوفهم.
ثم تكررت الاشتباكات يوم الإثنين الماضي في العاشر من مايو بعد اقتحام الشرطة الإسرائيلية للحرم القدسي موقعة مئات الجرحى الفلسطينين وقد أصيب بعضهم بجروح خطيرة.
بعد ذلك، اتخذت التطورات منعطفاً غير مسبوق انطوى على تغيير واضح في قواعد الاشتباك، من خلال بيان نشرته «كتائب القسام» التابعة لحركة «حماس» قالت فيه: إنّ قيادة المقاومة تُمهل إسرائيل حتى السادسة مساءً لسحب جنودها من الأقصى وإطلاق سراح المعتقلين…
بعد انقضاء المهلة قامت المقاومة الفلسطينية بتوجيه «ضربة صاروخية للعدو في القدس المحتلة رداً على جرائمه وعدوانه» على أهالي المدينة المقدسة، مؤكدة أن «صواريخنا رسالة على العدو أن يفهمها جيداً وإن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا».
تلقف بنيامين نتنياهو المأزوم سياسياً، تصعيد «حماس» بعد أن كان على أهبة التنحي عن رئاسة حكومة تصريف الأعمال بعد فشله في تشكيل حكومة جديدة، فأراد استغلال هذه «الفرصة الذهبية» كطوق نجاة لمستقبله السياسي المترهل ليقوم بشن عدوان على غزة من الجو والبر والبحر انتقاماً من المقاومة التي واصلت إمطار المدن والمستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ على مدار الأسبوع الماضي.
ومع غياب أي مؤشر على انكفاء المواجهة قريباً، طلب وزير الدفاع، بني غانتس، الخميس الماضي، من الجيش الإسرائيلي استدعاء 16 ألفاً من جنود الاحتياط للانخراط في المعركة، فيما قرر «البنتاغون» أن يسحب 120 عسكرياً ومدنياً أميركياً من إسرائيل كانوا سيشاركون في تدريبات مشتركة كانت ستكون الأكبر في تاريخ إسرائيل قبل إلغائها بسبب التطورات الأخيرة.
قد يكون انسحاب العسكريين الأميركيين رسالة سلبية موجهة من إدارة جو بايدن إلى نتنياهو الذي لم يتجاوب مع الرغبة الأميركية بوقف العدوان عاجلاً وليس آجلاً. وهذا النفور بين الطرفين لمح إليه بايدن عندما أعلنت إدارته بأنه أجرى مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اتصالاً هاتفياً «قصيراً». والظاهر أن الإدارة الأميركية استعملت كلمة «قصيراً» كيلا تستعمل كلمة «فاشلاً».
ومنذ اليوم الثاني من بدء العدوان على غزة بدا أن إسرائيل قد قصفت كل لائحة بنك الأهداف لديها ولم يتبق لها إلا أن تقصف الأبراج والشقق السكنية ومراكز الشرطة والمصارف والأحياء التجارية في محاولة واضحة لتأليب الحاضنة الشعبية ضد المقاومة. هكذا أصبحت مهمة عملية «حارس الأسوار»، كما أسمتها إسرائيل، القضاء على البنية التحتية المدنية وإصابة عدد كبير من السكان كوسيلة للضغط على «حماس» و«الجهاد الإسلامي».
وحتى اليوم فقد تخطى عدد الإصابات في غزة 500 إصابة بين شهيد وجريح فيما لم تتعد الإصابات لدى الإسرائيليين العشرات.
لكن المقاومة استطاعت تحقيق إصابات مباشرة ومؤلمة في صفوف الجيش الإسرائيلي رغم عدم التكافؤ في العديد والعدة والظروف القتالية، ورغم الحصار المفروض على القطاع منذ أكثر من 14 عاماً. فقد استهدفت المقاومة خلال عمليتها التي أسمتها «سيف القدس» آلية عسكرية إسرائيلية بصاروخ موجّه أدى إلى مقتل جندي وإصابة ثلاثة آخرين كانوا على متنها. كما قامت «كتائب القسام» في اليوم نفسه باستهداف منصة للغاز في عرض البحر قبالة الساحل بالطائرات المسيرة من طراز «شهاب» محلية الصنع.
كذلك، سجلت «كتائب القسام» انتصاراً مدوياً آخر عندما قامت يوم الثلاثاء الماضي بقصف مشروع أنابيب عسقلان–إيلات مما أدى إلى اشتعال النيران في صهاريج «كاتسا» في عسقلان. وهذا الخط كان قد أُنشئ أيام حكم الشاه وكانت السفن الإيرانية وقتها تنقل النفط إلى إيلات ليتم نقله عبر هذا الأنبوب إلى الداخل الإسرائيلي وصولاً إلى عسقلان جنوب تل أبيب. واليوم يتم استعمال هذا الأنبوب لنقل جزء من النفط الإماراتي إلى إسرائيل، وجزء آخر إلى ساحل المتوسط تمهيداً لتصديره إلى أوروبا.
ولم تقتصر المواجهات بين قوات الاحتلال والفلسطينيين على القدس وغزة بل تعدتهما لتتوسع إلى مناطق عديدة في الضفة الغربية وفي مناطق الداخل الإسرائيلي أي ما يسمى بمناطق الـ48. وهذا حدث ليس له سابقة في تاريخ الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني مما أدى إلى إرباك ظاهر لدى المسؤولين الإسرائيليين مما حدا ببعضهم كرئيس البلاد رؤوفين ريفلين ووزير الدفاع غانتس إلى تسمية تلك المواجهات بحرب أهلية.
قال ريفلين «إن هذه الحرب الأهلية هي تهديد لوجودنا يفوق أي تهديد يأتي من الخارج». وغني عن القول إن هذه الاشتباكات داخل الخط الأخضر كانت مفاجئة للحكومة وللنخب والمراقبين على حد سواء. أما نتنياهو فقد صرح بدوره أن هذه المواجهات هي أخطر على دولة إسرائيل من التهديد الآتي من غزة، وذلك بعد زيارته لمدينة اللد حيث وقعت مظاهرات وأعمال عنف وحرق للسيارات والممتلكات واشتباكات بين العرب واليهود.
وكان لافتاً للمراقبين تصريح عدد من المسؤولين في المقاومة، سيما في «سرايا القدس» التابعة لحركة «الجهاد الإسلامي»، بأن مصدر سلاح المقاومة هو إيران، فيما أكد خبراء في الجيش الإسرائيلي على أن «مسيّرة شهاب» التي استعملتها المقاومة ليست إلا نسخة مصنعة محلياً عن مسيّرة «أبابيل» الإيرانية. بل إن رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، خالد مشعل، صرح من الدوحة بأن «المقاومة استفادت من خبرات عديدة من إيران ومن دول أخرى والآن نحن نصنع سلاحنا بعد التضييق على تهريب السلاح». وأضاف «علاقتنا مع طهران ممتازة طوال السنوات الماضية وهي تقف مع الحق الفلسطيني وداعمة لنا وتُشكر على ذلك»…
وكعادتها، تداعت الدول العربية إلى الإجتماع، ولكن هذه المرة افتراضياً، فصدر عن الجامعة العربية بيان بشأن نتائج الاجتماع الوزاري العربي الذي انعقد الثلاثاء الماضي لبحث اعتداءات إسرائيل على الفلسطينيين في القدس المحتلة وقطاع غزة. فجاء الرد العربي كالعادة دون مستوى الحدث: بيانات وعبارات الشجب والاستنكار، كدأبهم منذ عام 1948!
دولياً، برز اعتراض الولايات المتحدة على عقد جلسة علنية لمجلس الأمن لمناقشة التصعيد الإسرائيلي الفلسطيني، فيما دعت وزارة الخارجية الروسية إلى مراعاة وضع الأماكن المقدسة في القدس ووقف الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة.
لكن يجب التنويه أن الموقف الأميركي لم يكن منحازاً كلياً للكيان الصهيوني كما كان الحال خلال إدارة دونالد ترامب. فرغم أن الإدارة الأميركية أكدت على حق إسرائيل «بالدفاع عن النفس» دون ذكر حق الفلسطينيين بذلك، لكنها أعربت في بيان لافت صادر عن وزارة الخارجية عن «شعورها البالغ بالقلق إزاء احتمال إخلاء عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح وحي سلوان في القدس، حيث أن الكثير من هذه العائلات تعيش في منازلها هذه منذ أجيال».
من جهته، قال مندوب الصين وهو الرئيس الحالي لمجلس الأمن بأنه يأسف لمنع عقد اجتماع اليوم الجمعة من قبل عضو واحد (أميركا). أما رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون فقد ساوى بين الجلاد والضحية عندما «حث اسرائيل والفلسطينيين سواء على ضبط النفس»! أما منظمة العفو الدولية فقد دانت من جهتها الاستهداف النمطي للمدنيين.
وفي الولايات المتحدة قال السناتور بيرني ساندرز إن «دور إدارتنا يجب أن يكون التقريب بين شعوب المنطقة وليس دعم حكومة إسرائيلية يمينية». كذلك وصفت عضو الكونغرس الأميركي الصومالية الأصل، إلهان عمر، في تغريدة لها، العدوان الإسرائيلي على غزة خلال أسبوع العيد بأنه «عمل إرهابي وبأن الفلسطينيين يستحقون الحماية».
في الختام، يبدو واضحاً أن نتنياهو سيحاول الاستفادة قدر الإمكان من التطورات الأخيرة لتعويم نفسه سياسياً عبر تسجيل انتصار ولو محدود في غزة أملاً باستقطاب زخم شعبي يسمح له بالدعوة إلى انتخابات مبكرة ومنع منافسه يائير لابيد من المضي قدماً في مساعي التأليف. ولا شك أن الانتصار المزعوم الذي يبحث عنه نتنياهو ثمنه سفك المزيد من دماء الإبرياء في غزة وسائر الأراضي المحتلة لاستمالة الناخب الإسرائيلي وكسب رضى اليمين الذي يحتاجه لتشكيل حكومة في المستقبل.
لكن إلى أي مدى ستسمح الإدارة الأميركية لنتنياهو بالمضي بعدوانه سيما وأن الوضع المتوتر في المنطقة لا يحتمل المغامرات وقد يتفجر إقليمياً في أية لحظة.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply