عندما شاهدت ممثل السلطة الفلسطينية الخريشا يدافع -بحرارة زائدة- عن ضحايا غزة ويصف الجرائم الإسرائيلية بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ويؤكد أن إسرائيل يجب ألا تفلت من العقاب هذه المرة حسبت أنني في حلم جميل، فركت عيني عدة مرات، وبعد أن تأكدت أنني لست نائما قلت في نفسي أن الحياء والخجل عادا إلى وجنات السلطة، وأنها الآن تقف في نفس الخندق مع شعبها لا في الخندق المقابل، عادت السلطة وتابت والعود أحمد، وندمت عن كل ما كتبت سابقا عن مؤامرات هذه السلطة على شعبها وخياناتها لقضاياها المصيرية، وقلت في نفسي أن بعض الظن إثم، وسمعت الكثيرين يقولون: إن الدم لا يصير ماء -حقا-.
لم تدم فرحتي سوى لمدة 24-48 ساعة، إذ كنت أمارس هوايتي الوحيدة، مشاهدة الأخبار، الهواية التي أمارسها يوميا منذ أربعة عقود، ويمارسها ملايين العرب -العاجزين عن أي فعل آخر- وكان لي أن أفرك عيني ثانية، فقد تأكدت أن ما شاهدته قبل يومين لم يكن حلما، اذا فما أشاهده الآن هو بالتأكيد كابوس أو أضغاث أحلام وتهيؤات ليس إلا، ولكنه لم يكن إلا حقيقة، استجمعت أفكاري ووضعت الأمور في سياقها الزمني حتى أفهم ما يحدث!
المندوب الباكستاني، كمتحدث عن المجموعة العربية والإسلامية والإفريقية (ولم استوعب كيف تكون الباكستان الآسيوية متحدثة باسم افريقيا. إنه أمر جلل، يتفق العرب والمسلمون معا، وآسيا وافريقيا) هذا المندوب يطلب من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بتأجيل عرض تقرير لجنة غولدستون على مجلس الأمن ومن ثم محكمة الجنايات الدولية، ثم أتت الأخبار متسارعة، هذا المندوب يفعل ذلك بناء على طلب الوفد الفلسطيني، نعم نفس الوفد، الخريشا وزمرته الذي سمعته قبل يومين، والتأجيل ليس ليوم أو أسبوع أو شهر، ولكن للدورة القادمة للمجلس في آذار (ستة أشهر)، وجيئ برجالات السلطة ليعطونا دروسا في الاستراتيجية والتكتيك السياسي ومبررات التأجيل للحصول على الدعم الكامل في مجلس الأمن بعد ستة أشهر، ولإعطاء فرصة لعملية السلام، ولم يقنع رجال السلطة أحدا بهذا الكلام ولا حتى أنفسهم. الآن اكتملت القصة فهذا ما نتوقعه من السلطة التي ما عادت فلسطينية أبدا.
السيد خالد مشعل كان مهذبا عندما وصف ما حدث بالعيب، وآخرون وصفوها بالجريمة والمؤامرة. دعونا نسميها خيانة عظمى، وما يترتب على ذلك من تبعات جنائية وقانونية.
أشارت وسائل الإعلام إلى استقالة وزير الاقتصاد الفلسطيني باسم خوري من وزارة فياض غير الشرعية احتجاجا على ما حدث، على الأقل واحد من ثلاثين -طاقم الوزارة- مازال فلسطينيا. المتفائلون يتوقعون استقالة الوزارة كلها (ربما عدا فياض نفسه) وأنا حزين على فلسطين التاريخ والعراقة والآباء، إنها لا تستحق أبدا أن يحكمها مثل هؤلاء.
السلطة غير الفلسطينية وعلى رأسها عباس لم تفقد البوصلة والبصيرة فحسب، بل فقدت الاحساس والحياء منذ أوسلو أو ربما قبل ذلك. لا تنعتوها بأقبح الأسماء والصفات والأفعال والأحوال، ولا تخشوا أنكم بفعلكم ستجرحون مشاعرها، ولا أحسب أن الشاعر قال “ما لجرح بميت إيلام” إلا بمثل هؤلاء.
السلطة غير الفلسطينية، تمارس في الضفة قمعا، وابتزازا وحكما عسكريا محاولة كتم كل الأصوات المعارضة لسياساتها التي تضر بمصالح الشعب الفلسطيني حتى من داخل حركة فتح نفسها. إن سياسات هذه السلطة (الزمرة) هي خيانة لم يعد لها تسمية أخرى، ولم تعد المبررات الهزيلة التي تسوقها تنطلي على أحد، السلطة تمول من أميركا وتدير الضفة مدنيا كأنها دكان لحسابها، وكل معارض يفصل من وظيفته، يضيقون على الناس في لقمة عيشهم، شعبنا ضحى ومازال يضحي ولا أعتقد أن فلسطينيي الضفة سيصمتون عن هذه المهزلة، فمازال في قلسطين أحرار لا يخافون لومة لائم.
المقالات، والاعتراضات، والإدانات لا تكفي، المطلوب من أهلنا في الضفة أن يهبوا لنصرة دماء غزة وأجساد رجالها ونسائها التي فتتها الفوسفور الأبيض، هذه السلطة أعطت صك براءة لإسرائيل بعد أن استيقظ العالم وكاد يقدمها للمحاكمة، ويضع قادتها في قفص الاتهام كمجرمي حرب.
أهالي نابلس جبل النار، وجنين التي ما انحنت أبدا والخليل الأبية، وبيت لحم الصامدة، والقدس المرابطة، وطولكرم وقلقيلية التي لا تعرف الخنوع، ورام الله وأريحا اللتان تحسبهما نائمتين، ولكنه الجمر تحت الرماد، وباقي المدن والقرى والبلدات، جميعها مطالبة بانتفاضة جديدة، هذه المرة ليست ضد الاحتلال، ولكن ضد من هم أخطر تجار وسماسرة القضية في المقاطعة، انتفاضة لا تنتهي الا بتنحيتهم، وتقديمهم إلى محاكمات بتهم الخيانة العظمى، واذا لم تكن هذه خيانة، فما الخيانة؟!
قد لا يحدث هذا، ولكن لا أظن أن الوقت سيطول قبل أن يلفظ الشعب الفلسطيني في الداخل هذه الفئة التي لم يعد يهمهما سوى كراسيها وأرصدتها، ولم يعد لها الوطن سوى شركة مفتوحة للنهب.
ألم يقل الجنرالات الصهاينة أن السلطة غير الفلسطينية هي التي ألحت على إسرائيل للقيام بعدوانها على غزة وتصفية المقاومة، فكيف بعد ذلك يصبح طلب التأجيل مستهجنا من الكثيرين، إنها نتيجة حتمية أن يدافع الشريك -ويستميت دفاعا- عن شريكه، والا فإن محاكمة اسرائيل ستكشف حقائق أخرى سيندى لها الجبين، لا تتوقعوا أي خير من هذه لسلطة، فالذنب العوج لن يستقيم!
ما حدث كنا نتوقع حدوثه، ولكن هذا لن يمنع أن ترتفع الأصوات برفضه، ولننس ردة الفعل السريعة والمؤقتة ولتستمر الحملة حتى يتحمل الجناة المسؤولية الكاملة عن جرائمهم، ولتستمر الحملات في الداخل والخارج ولا تهدأ إلا بسقوط عباس وفياض وكل الزمرة التي لا تنتمي لهذا الشعب العظيم.
عباس يتخبط كمن أصابه المس، في البداية أنكرت حكومته أن ممثل فلسطين هو الذي طلب التأجيل، ثم ادعى أن ذلك جرى بالتنسيق مع الوفود العربية والاسلامية، ثم هو ذا يكون لجنة تحقيق في ملابسات التأجيل، الأمر لا يحتاج إلى لجنة. عباس مطالب بأن يكون رجلا لمرة واحدة في حياته، ويتحمل المسؤولية كلها، ويتنحى، لا تكفير لهذا الذنب الا بالتنحي والمثول أمام المحكمة.
الشعب الفلسطيني مطالب بأن يمارس حريته في التعبير، ويرفض ما حدث، المظاهرة المتوضعة التي جرت في رام الله يجب أن تتسع وتمتد إلى مدن الضفة كلها، بمدارسها وجامعاتها، مساجدها وكنائسها وأسواقها، ضحايا غزة الذين جرى بيع دمائهم بلا ثمن، هم أبناء وأخوة فلسطينيي الضفة.
المؤسسات الفلسطينية لها أن تثبت الآن أنها ذات قيمة وكيان وفاعلية، المجلس التشريعي، اللجنة التنفيذية للمنظمة، اللجنة المركزية والمجلس الثوري لفتح، والمجلس الوطني الفلسطيني، فليجتمعوا على عجل، وليسائلوا عباس عن الجريمة والخيانة وليعزلوه عن كل مناصبه اللهم إلا إذا كانوا شركاء في الجريمة.
الصمت الآن خيانة، فلترتفع الأصوات الحرة، وليكشف النقاب عن المجرم الحقيقي، سواء كان عباس أو غيره، ولتكن محاكمة مفتوحة لكل السماسرة ولتأخذ العدالة مجراها، ولتكن هذه المأساة فاتحة لعهد فلسطيني جديد، نظيف يليق بفلسطين وبشعبها العظيم، ففلسطين لا تستحق أبدا أن يحكمها أمثال هؤلاء، فليلفظهم الشعب والوطن كما لفظهم التاريخ.
Leave a Reply