يعيش لبنان في فوضى سياسية هذه الأيام، لعدم توصل الكتل النيابية فيه إلى توافق حول قانون الانتخاب، الذي عليه أن يمر بممر إجباري في المؤسسات الدستورية، الحكومة ومجلس النواب، عملاً بمقدمة الدستور التي تؤكّد على أن لا شرعية لصيغة العيش المشترك ما لم تتمثل فيها كافة الطائفية المكونة للمجتمع اللبناني، وهو ما حرصت عليه المادة 95 من الدستور، التي نصت على طائفية النظام السياسي كحالة مؤقتة.
فبعد الشغور في رئاسة الجمهورية الذي دام لنحو عامين ونصف العام، وحصول التوافق على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بين أكثرية الكتل النيابية، فإن القلق اليوم ينتاب اللبنانيين من أن يقترب موعد 21 حزيران المقبل ولم ينتخبوا مجلساً نيابياً سواء على قانون جديد، كما وعد الرئيس عون، أو وفق القانون الحالي النافذ والذي يسمى بـ«الستين»، والذي أعاد «اتفاق الدوحة» (٢٠٠٧) إنتاجه كتسوية لبنانية داخلية برعاية عربية وإقليمية ودولية، وتمّ خلاله تجاوز اتفاق الطائف الذي نصّ على اعتماد المحافظة كدائرة انتخابية، لتتم العودة إلى القضاء كوحدة انتخابية، وهو ما ترفضه غالبية المكونات السياسية دون أن تتفق على بديل.
عجقة مشاريع
إذ يوجد في مجلس النواب 17 مشروعاً واقتراح قانون، كل منها يعتمد صيغة معينة، فمن النسبية الكاملة ولبنان دائرة واحدة إلى النسبية مع دوائر متوسطة إلى النسبية الجزئية مع النظام الأكثري إلى المشروع الأرثوذكسي الذي يدعو إلى انتخاب كل طائفة لنوابها، ثمّ إلى المختلط الذي يعتمد النظامين النسبي والأكثري مع توزيعات مختلفة للمقاعد كما للدوائر، إضافة إلى مقترح الدوائر الفردية، وصوت واحد لكل ناخب، إلى التأهيلي على الأساس الطائفي في نظام مختلط كما اقترح الوزير جبران باسيل ولاقى معارضة باعتباره يكرّس الطائفية السياسية ويعزز الفرز الطائفي.
فأمام كثرة المشاريع والاقتراحات والدراسات حول قانون الانتخاب، فإن جدلاً بيزنطياً يدور حوله، وكل فريق يعتمد في مقاربته على ما يناسب مصالحه السياسية والطائفية، فيسعى إلى قانون على مقاسه للمحافظة على وزنه السياسي، وهو ما ولّد أزمة سياسية راهنة قد تولّد انفجاراً أمنياً، تمّت محاصرته من خلال استخدام رئيس الجمهورية لصلاحياته الدستورية (المادة 59) بتعليق جلسات مجلس النواب لمدة شهر يتوقف خلاله التشريع.
ولجأ الرئيس عون إلى هذه السلطة للمرة الأولى منذ وضعها في الدستور، وتحديداً بعد الإستقلال، كي يتفادى مجلس النواب التمديد لنفسه لمرة ثالثة وربما رابعة، كما حذّر عون الذي سبق وقدم مع كتلته النيابية طعنين أمام المجلس الدستوري الذي لم ينعقد للرد على التمديد الأول في العام 2013، لينعقد بكامل أعضائه في العام 2014، ويؤكّد على إلزامية دورية الانتخابات لكن دون أن يعمل مجلس النواب بقرار المجلس الدستوري.
ربع الساعة الأخير
المهلة التي أعطاها رئيس الجمهورية للقوى السياسية لانتاج قانون جديد للانتخاب، بدأت تقترب من نهايتها في 13 أيار (مايو) الحالي، حيث يصادف بعد يومين دعوة رئيس مجلس النواب إلى عقد جلسة تشريعية في 15 منه، لدرس اقتراح قانون معجل مكرّر من النائب نقولا فتوش للتمديد لمجلس النواب الحالي، مع اقتراب نهاية ولايته الممدة في 21 حزيران، وقبل انتهاء مهلة جلسات المجلس العادية التي تنتهي في 31 أيار الحالي، حيث لا يمكن بعدها للمجلس أن يشرّع للتمديد لنفسه، إلا إذا قرّر رئيس الجمهورية فتح دورة استثنائية له، وهو قد يلجأ إلى ذلك، عندما لمّح بأن في استطاعة مجلس النواب أن يقر قانون حتى 19 حزيران، مما يؤشر إلى أن الرئيس عون مصمم على إقرار قانون جديد، وبعده يمكن التمديد التقني للمجلس لإجراء الانتخابات النيابية.
وبذلك يكون عون حقّق ما أعلنه في خطاب القسم، وهو صدور قانون جديد للانتخاب، ورفض تمديد مجلس النواب، وعدم حصول الفراغ في السلطة التشريعية، وهي أم السلطات، ولكن كل ذلك مرتبط بتحقيق توافق سياسي، دونه عقبات بالرغم من الاجتماعات واللقاءات المتواصلة التي تحصل بين مختلف القوى السياسية.
الاستقرار الأمني
فالقانون الجديد للانتخابات هو ما يشغل اللبنانيين في هذه المرحلة، كما يقلقهم عدم التوافق عليه مع صعود نبرات التصعيد واللجوء إلى الشارع، حيث حذّرت مراجع أمنية رسمية وأبرزها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، من أن اللغة السياسية السائدة والتي تتّسم بالتشنّج والانقسام وتهديد الوحدة الوطنية لا تساعد على الاستقرار الأمني، الذي تقوم القوى الأمنية والعسكرية بالحفاظ عليه عبر الإمساك بالأمن وكشف الشبكات الإرهابية واعتقال قادتها وعناصرها، مما وفّر على لبنان حصول عشرات عمليات التفجير والاغتيال، في وقت يشتعل فيه الجوار بالحرائق، وأدماها في سوريا، كما في العراق وصولاً إلى اليمن وليبيا إضافة إلى ما يحصل في مصر وصحراء سيناء تحديداً، وامتداداً إلى بلدان أوروبية وآسيوية، حيث يبقى لبنان الأكثر أمناً وأماناً من الإرهاب، وقد لا يبقى كذلك إذا استمرت الخلافات السياسية حول قانون الانتخاب والذهاب بلبنان نحو الهاوية التي حذّر من الوصول إليها والوقوع فيها الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله داعياً كل الأطراف إلى التوافق حول قانون انتخاب، لا يمكن إلا أن تتّفق القوى السياسية عليه قبل فوات الآوان.
وطالب نصرالله بالتوصل إلى صيغة توافقية على القانون وعدم فرضه فرضاً على أي مكوّن سياسي أو طائفي يشعر بأنه مغبون منه أو لديه هواجس حوله، لأن «الديمقراطية التوافقية» هي التي تحكم العلاقة بين المكونات اللبنانية وفق الدستور.
مرحلة خطيرة
تفصل لبنان مهلة أيام معدودة عن استحقاق قانون الانتخاب الذي لم تتقدم الحكومة فيه بعد بمشروع قانون إلى مجلس النواب، وهذا واجبها، وهي التي تشكّلت بعد الانتخابات الرئاسية لهذه المهمة، لأنه كان يفصل عن تأليفها والانتخابات النيابية نحو خمسة أشهر. غير أن البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي أكد من جانبه على ضرورة حصول الانتخابات على أساس الستين إذا لم يصدر قانون بديل ضمن المهل المحددة، وكي لا يقع لبنان في الفراغ النيابي هذا الصيف، وهو ما نبّه منه الرئيس برّي مؤكداً أن حدوثه سيعني انهيار كل المؤسسات الدستورية وتعطيلها، مفضلاً أن يتم التمديد القسري على أن يفقد لبنان سلطته التشريعية التي عليها أن تراقب الحكومة وتقرّ القوانين ومنها قانون الانتخاب فيما لو حصل اتفاق حوله إضافة إلى انتخاب رئيس الجمهورية إذا حصل شغور مفاجىء.
فكل هذه الأسئلة المطروحة سياسياً وشعبياً في لبنان، تضع البلاد أمام مرحلة دقيقة وخطيرة جداً ومفتوحة على كل الاحتمالات، ومنها الاهتزاز الأمني الذي قد يترافق مع استخدام الشارع الذي سيواجهه بشارع مقابل، مما سيؤدي إلى تسخين جبهات الداخل والدخول في المجهول الذي حذّر منه الرئيس برّي ويدركه كثيرون، لاسيما وأن كل طرف يمارس مختلف أساليب الضغط السياسي والشعبي في إطار مفاوضات قاسية حول قانون الانتخاب الذي منه تتكون السلطة.
فالكل يلعب لعبة حافة الهاوية، وإذا لم يحسن إدارتها فقد ينزلق لبنان إلى الهاوية التي هي الفتنة التي يحذر منها السيد نصرالله، لاسيما مع بروز طروحات تتحدث عن تعديل للدستور.
ومازالت الاقتراحات والمشاريع والأفكار بين مدّ وجزر ليدخل لبنان معها في فوضى سياسية صنعها السياسيون اللبنانيون بأيديهم، كأنهم يحضّرون لإسقاط هيكل الدولة على رؤوس الجميع.
Leave a Reply