لم يكد رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية محمود أحمدي نجاد ينهي زيارته التاريخية والاستثنائية إلى لبنان، حتى حضر إلى بيروت وبسرعة خاطفة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان الذي كان سفيراً في بلاد الأرز، وداعماً وممولا لـ”ثورة الأرز” باعترافه هو أمام لجنة الخارجية في الكونغرس الأميركي، بأنه دفع مبلغ 500 مليون دولار لتشويه صورة المقاومة ونزع سلاحها.
الحضور المفاجئ للدبلوماسي الأميركي، والقادم من المملكة العربية السعودية، كان للتشويش على زيارة رئيس دولة صديقة للبنان، الذي أقام له استقبالاً شعبياً قلّ نظيره لضيف يحل على الدولة اللبنانية، التي تلقت الدعم الكامل من الرئيس نجاد في كل مواقفه التي أعلنها، وأكد فيها على احترام سيادة لبنان واستقلاله وخصوصيته وتنوع طوائفه ومذاهبه، ودعا إلى تمتين الوحدة الوطنية والتصدي لكل أنواع الفتن التي تحاك للبنانيين، وهي تخدم العدو الإسرائيلي، كما أعلن وقوفه إلى جانب المؤسسات الدستورية.
هذا الخطاب العقلاني فاجأ من تصدى للزيارة، وخوّف اللبنانيين منها، ورأى فيها أنها تضع لبنان في محور مقاوم ضد إسرائيل، لا يريده نصف اللبنانيين كما قال أطراف 14 آذار، الذين لا يريدون أن يدخلوا في لعبة محاور إقليمية، وفق ما صدر عن كتلة “المستقبل” برئاسة سعد الحريري بعد انتهاء زيارة الرئيس الإيراني، وأكدت في بيان لها، أن لبنان اختار أن يكون في المحور العربي الذي أنتج “المبادرة العربية”، في إشارة أنه يلتزم سياسة الدول العربية المعتدلة التي تنتهجها السعودية ومصر والأردن، في رد على مواقف الرئيس الإيراني في المهرجانيين الشعبيين في الضاحية الجنوبية وبنت جبيل، والذي أكد في كلمتين له، بأن لبنان المقاوم يصنع تاريخ المنطقة، وأن هناك جبهة مقاومة وممانعة تبدأ من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وتركيا، هذه الجبهة تقرر مصير المنطقة وستقتلع إسرائيل من فلسطين لتعود إلى أصحابها، ويعود اليهود إلى الأوطان التي أتوا منها.
كلام نجاد المبدئي والعقائدي رأى فيه فريق “14 آذار”، أنه لا ينسجم مع ما قاله في المحادثات الرسمية، في حين أن ما أعلنه ليس بالأمر الجديد بشأن إزالة إسرائيل، التي وصفها قائد الثورة الإسلامية في إيران الإمام الراحل الخميني بأنها غدّة سرطانية يجب أن تُقتلع، كما هي أميركا شر مطلق، وهو التعبير الرسمي للجمهورية الإسلامية من الكيان الصهيوني والاستكبار العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة، منذ انتصار الثورة على نظام الشاه في العام 1979.
ولقد حاول البعض استغلال مواقف الرئيس الإيراني، وتمّ الدخول على خط تشويه الزيارة التي نجحت نجاحاً قياسياً على كل المستويات الرسمية والسياسية والاقتصادية والشعبية، وتميّزت بتوقيع 17 اتفاقية بين الدولتين، وهو رد إيراني على كل كلام صدر ويصدر بأن الجمهورية الإسلامية تتعاطى مع دولة “حزب الله”، وأن نجاد زار دولتين وألقى خطابين، وهو ما دحضته مواقفه الرسمية والاتفاقات التي تعزز العلاقة بين البلدين والشعبين، وإن ما أعلنه بشأن المقاومة لا يخرج عن سياسة الدولة اللبنانية، ولا عن البيان الوزاري للحكومة ومن سبقها باعتراف في دورها بالدفاع عن لبنان، كما أن المقاومة لا تنكر أنها تتلقى المساعدة من إيران كدولة صديقة لها وللبنان.
فاستقبال المقاومة وجمهورها لرئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كان طبيعياً، وتعبيراً عن شكر وامتنان الشعب اللبناني لما قدمه الشعب الإيراني من مساعدات لإعمار ما هدّمه العدوان الإسرائيلي في صيف 2006، وهو الموقف نفسه الذي قابل أبناء الجنوب به أمير قطر الذي ذهب إلى بنت جبيل في مطلع آب (أغسطس) الماضي، لتدشين ما تمّ إعادة بنائه في المدينة التي شهدت الاحتفال بالتحرير في نهاية أيار 2000، إثر انسحاب قوات الاحتلال تحت ضربات المقاومة.
لكن زيارة الرئيس الإيراني إلى المدينة التي وقف على تخومها إسرائيل في أثناء حربه في تموز 2006، تختلف عن كل الزيارات الأخرى، لأنها تحمل معنى سياسياً كبيراً، يتعلق بوجود إسرائيل، والتي باتت ترى إيران عند حدودها كما يقول قادة الكيان الصهيوني، الذين رأوا في قدوم نجاد إلى حدود دولتهم والإطلالة منها على المستوطنات بمثابة تأكيد على أن الجبهة لم تعد مع لبنان، بل هي تمتد إلى قوس من إيران إلى تركيا، وهو ما بدأ يقلق المسؤولين الإسرائيليين، ويتحدثون عن خطر وجودي يتهددهم، وهم بدأوا بالتحريض على إيران ويستغلون برنامجها النووي السلمي، على أنه يهدّد أمن إسرائيل والمنطقة، ولا بد من عمل عسكري ضدها، إذا لم تنفع العقوبات.
لذلك تمّ النظر إلى الزيارة من زاوية ما تسببه من خطر على إسرائيل، عبر الدعم الذي تلقاه المقاومة من إيران وسوريا، وقد كان التهويل على حصولها لأنها ستثبت لبنان في المحور السوري-الإيراني الذي سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة، إلى إخراجه منه، وهي ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، ومع صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559 في أول أيلول 2004، وهناك مسعى أميركي-إسرائيلي، لفك ارتباط لبنان بسوريا وإيران، وكانت لـ”ثورة الأرز” التي تم تحريكها أميركيا، هدف واحد واضح وهو إخراج القوات السورية من لبنان، للإطباق على المقاومة من ضمن مشروع نزع “الوصاية السورية” عن لبنان وإدخاله في الوصاية الأميركية من ضمن مشروع “الشرق الأوسط الكبير” ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من تصفية المقاومة وتجريدها من سلاحها، وتم تكليف “ثوار الأرز” بالمهمة لكنهم لم يتمكنوا منها، فتم اللجوء إلى إسرائيل في “حرب تموز” ليولد من رحمها “الشرق الأوسط الجديد” كما قالت كونداليزا رايس التي لم تقبل بوقف الأعمال العسكرية حتى تحقيق هذا الهدف، الذي فشلت في تطبيقه بعد 33 يوماً من الدمار والقتل بالآلة العسكرية الإسرائيلية والأميركية الصنع.
فمنذ انتصار المقاومة في صد العدوان الإسرائيلي، وسقوط المشروع الأميركي دخل لبنان فعلياً في عصر المقاومة، وبدأت عملية اجتثاث مرحلة الوصاية الأميركية، فكان التصدي لقرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي سماها الأمين العام لـ”حزب الله” بحكومة فيلتمان (السفير الأميركي آنذاك في لبنان) الذي أوصى أدواته في الحكومة السنيورية أن يتخذوا قراراً بنزع شبكة اتصالات المقاومة، كأحد الأسلحة الفعالة في حرب تموز، فكان الرد على قرار 5 أيار 2008، عبر الشارع في 7 أيار وبدأت عملية إزالة الوصاية الأميركية عن القرار السياسي، من خلال انتخاب رئيس توافقي للجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية للمعارضة فيها الثلث الضامن، وهكذا بدأ تحرير القرار السياسي من النفوذ الأميركي الذي حاول أن يستمر عبر الأجهزة الأمنية والقضائية، ولأنها تشكل أداة في يد المحكمة الدولية، التي يتم استغلالها سياسياً ضد المقاومة، من خلال استصدار قرار ظني يدين عناصر من “حزب الله” في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو ما يجري التصدي له، ولإنهاء آخر تأثير أميركي على القرار اللبناني.
ولقد تبين أن النظام الأمني اللبناني-الأميركي المشترك الذي نشأ بعد اغتيال الحريري، هو من فبرك شهود الزور، الذين أدلوا بإفادات كاذبة، من أجل إنجاز الانقلاب الأميركي، والسيطرة على لبنان، لإخراجه من دوره المقاوم، وزجه في محور الاعتدال العربي والاستسلام لـ إسرائيل.
من هنا كان التفسير الأميركي والإسرائيلي لزيارة نجاد، على أنها ربط لبنان بمحور مناهض للمشاريع والمخططات الأميركية، وأن إيران باتت على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وأن الحلف الإيراني-السوري-التركي، استطاع أن يسيطر على البحار الأربعة، وهو ما يعطيه قوة إقليمية واستراتيجية مستقلة، وهذا ما دفع بدول عرب الاعتدال للسؤال عن موقعهم في المعادلات الإقليمية والدولية، بعد أن تقدمت إيران وتركيا باتجاه القضية الفلسطينية، التي لم تعد قضية العرب المركزية، بعد أن تمّ التخلي عنها أولا من أصحابها الفلسطينيين الذين تحولت سلطتهم إلى مفاوضات تدور في حلقة مفرغة، فلم تستعد لهم حقوقهم، وباتت أسيرة القرار الأميركي والإسرائيلي، وهو ما قوّى فصائل المقاومة التي رأت لها سنداً في إيران وسوريا، ثم في تركيا بعد العدوان على غزة، وهو ما ترك الدول العربية المعتدلة، دون تأثير وفعل لا بل أن بعضهم سعى إلى نقل المعركة التي كانت شكلية بالنسبة لهم ضد إسرائيل باتجاه إيران، والتحذير من قوتها النووية، وتمدد نفوذها واللعب على الوتر المذهبي، في تناسي لما تختزنه إسرائيل من سلاح نووي، والى مشاريعها التوسعية الاستيطانية كما إلى رفضها للسلام والعمل دائماً للحرب.
فلقد أخاف الحضور الإيراني في قلب الصراع ضد العدو الإسرائيلي، أميركا التي أرسلت أحد دبلوماسيّها فيلتمان إلى لبنان، في زيارة وصفت بالترغيب والترهيب، حيث نقل إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان عتباً أميركياً على استقبال نجاد، وعقد اتفاقيات مع إيران التي تتعرض لعقوبات وفق قرار مجلس الأمن الدولي 1929، وأن قبول تسليح الجيش منها، يعني أنه أصبح خاضعاً لها عقيدة وتجهيزاً، وهذا يؤثر على وضع لبنان كدولة محايدة، كما أنه سيستأثر بمشروع المساعدات الأميركية والغربية، ويجب وقف التمدد الإيراني باتجاه مواقع السلطة في لبنان.
وقد سعى فيلتمان إلى احتواء زيارة نجاد عبر ترداد مواقف أميركية بدعم سيادة لبنان وأعاد التأكيد على دور المحكمة الدولية من الاقتصاص من قتلة الحريري، في إشارة إلى استخدامها السياسي، والى أن القرار الظني الذي سيصدر، سيكون له الدور في منع انزلاق لبنان نحو المحور الإيراني، لأنه سيجتث “حزب الله” ومن يقف معه، عبر العدالة الدولية، وهو الوعد الذي حمله الدبلوماسي الأميركي إلى حلفائه لمن بقي منهم في قوى “14 آذار”، أن لا يذعنوا إلى تهويل “حزب الله” لأن قيادته ستمثل أمام المحكمة الدولية في الأشهر القريبة المقبلة، وأن مفعول زيارة الرئيس الإيراني ستنتهي مع بدء أعمال المحكمة التي تنال دعماً عربياً ودولياً بالرغم من محاولات إلغائها من قبل إيران وسوريا وحلفائهما.
لذلك كان هذا الضجيج الأميركي والإسرائيلي المتناغم مع مواقف داخلية لبنانية حول زيارة الرئيس الإيراني، لأنها تنقل لبنان من الوصاية الأميركية، إلى محوره الطبيعي والذي هو فيه منذ عقود، وهو محور المقاومة، بمواجهة إسرائيل، قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران وبعدها، لأن القوى الوطنية والقومية والتقدمية، فيه تستمد موقعها من مبادئها، التي ترى في إسرائيل خطراً وجودياً على المشرق العربي، وأن مشروعها الاستيطاني الذي بدأ في فلسطين باقتلاع وطرد شعبها وإقامة الدولة العبرية، لن يقف عند حدود فلسطين، وهو توسع، لكن ظهور المقاومة أفشل هذا المشروع التوراتي-التلمودي، وانكشفت حقيقته عن أنه يسعى إلى دولة يهودية ستصطدم بالوجود الفلسطيني المقاوم، مما يؤكد أن فلسطين بدأت رحلة استعادتها، وأن أصدقاءها يتكاثرون وإيران أولى هذه الدول التي بدأت مع ثورتها تتغير خارطة المنطقة.
Leave a Reply