وليد مرمر
لم يكن هناك أدنى شك في أن الجلبة التي حدثت مؤخراً عقب عرض فيلم «سيدة الجنة» The Lady of Heaven في دور السينما البريطانية، كانت متوقعة لكل من كان يترقب عرض الفيلم.
ولمن لا يعلم، فالفيلم البريطاني الذي كتبه وأنتجه زعيم مؤسسة «خدام المهدي» في بريطانيا، ياسر الحبيب، يتناول حياة السيدة فاطمة و«استشهادها». وهو قد تسبب بإثارة الجدل في العديد من البلاد وتمّ سحبه من بعض دُور السينما في بريطانيا كما وتسبب بتظاهرات في أماكن عدة في العالم ورفضت عرضه معظم الدول الإسلامية (سنية وشيعية) وشجبته معظم المرجعيات الدينية من الطرفين.
وبغض النظر عن الأجندات الظاهرة والخفية لياسر الحبيب ومؤسسته التي تحظى بالدعم والرعاية الغربية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو، كيف نفرّق بين حرية التعبير وحرمة الإساءة للرموز المقدسة؟
وثانياً، لماذا نطلب من الآخرين عدم الإساءة لرموزنا الدينية فيما نسيء نحن لرموزهم؟
وثالثاً، ما هو المنهج لتحديد الرموز والمقدسات سيما مع اختلاف مدارس الرأي وتعدد النظريات التاريخية؟
يُنقل عن الأديب الأميركي هنري مينكن أنه قال: «لكل مشكلة معقدة حل بسيط وسهل وخاطئ»!
والتساهل بالإجابة على الأسئلة المذكورة أعلاه لا شك سيكون خطأ جسيماً وتسطيحاً ساذجاً للمشاكل.
نعم إن قناة «فدك» التي يديرها ياسر الحبيب هي قناة فتنوية من الطراز الأول. ولكنها ليست الوحيدة في سياسة بث الشقاق والفتنة بل يقابلها في الجهة الأخرى، قنوات تحريضية كـ«وصال» و«صفا»، وهما قناتان ممولتان من مملكة آل سعود لا يجاريهما أحد في مضمار الفتنة والتكفير.
ولكن، وبكل موضوعية وتجرد، هل يحق لياسر الحبيب، زعيم ما أصبح يُعرف بالـ«التشيع اللندني»، أن ينتج فيلماً يعرض فيه ما يظنه صحيحاً حول حياة وموت السيدة فاطمة؟
من وجهة نظر الحكومة البريطانية والقيم الغربية ومبادئ حقوق الإنسان الحديثة، فإن ذلك حق لا شك فيه بغض النظر عن مدى تقبل الناس له.
فبعد البدء بعرض الفيلم المذكور في بريطانيا كتب مستشار للحكومة البريطانية، من أصل مسلم، يُدعى قاري عاصم وهو إمام مسجد ومحام في مدينة ليدز، كتب عبر صفحته على «فيسبوك» أن الفيلم «يؤذي مشاعر المسلمين»، داعياً إلى التظاهر لمنع عرض الفيلم. فما كان من الحكومة البريطانية إلا أن فصلته من عمله متهمة إياه بتشجيع مظاهرات تحرّض على الكراهية الدينية.
ولأي فرد أن يوافق أو يخالف قرار الحكومة البريطانية ولكن ما لا يمكن الجدال به هو أن القرار ارتكز بالدرجة الأولى على حماية حرية التعبير المصانة في الدساتير.
وبالعود إلى القرن الماضي، وفي سابقة قد تكون وحيدة، اتفق السنة والشيعة على إنتاج فيلم «الرسالة» حول حياة النبي محمد. ونال الفيلم رضا الطرفين ولم تثر أحداثه حفيظة أحد. وأضفى المخرج الراحل مصطفى العقاد لمسته التوفيقية على العمل بذكاء وبراعة ظاهرتين بحيث استطاع أن يرضي الفئتين رغم اختلاف تفسير العديد من الأحداث.
ولكن هذا لم يمنع بعض رموز السلفية كمحمد النجيمي باتهام الفيلم بالترويج للتشيع عبر «تشويه» صورة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية، واتهامها «زوراً» بالاتفاق مع وحشي لقتل حمزة عم النبي. بل وَعَدّ النجيمي رواية بقر بطن حمزة من قبل هند ومحاولة لوك كبده «رواية شيعية». أي باختصار حاول النجيمي تبرئة ساحة هند بنت عتبة بسبب رضوخه للنظرية–الأيديولوجية المسماة «عدالة الصحابة». ورغم إهدار النبي لدم هند يوم فتح مكة إلا أنه عاد وصفح عنها، ولذا فهي لدى الطائفة السنية صحابية عادلة! ونفس الأمر ينطبق على معاوية «كاتب الوحي» و«خال المؤمنين» والذي هو لدى الشيعة خارج عن أمر الخليفة علي بن أبي طالب واجب الطاعة وقتئذ!
كما وثمة أصوات –قد تكون شاذة– تتهم الحسين (المقدس لدى الشيعة وأغلب السنة) بالخروج على إمام زمانه (يزيد) وأنه قُتل بسيف جده!
وأيضا تكاد تجمع آراء السنة أن أبا طالب والذي يسميه الكثير من الشيعة «مؤمن قريش»، هو كافر و«في ضحضاح من النار». بل وأيضاً يُجمعون أن أم النبي وأباه كانا كافرين. وهذا الأمر يثير حفيظة الشيعة الذين يعتبرون أبا طالب قد أخفى إيمانه بأمر من النبي وأن والدي النبي موحدان على دين إبراهيم. وهذا طه حسين «السني» في كتابه «الفتنة الكبرى» يمدح «الشيخين» وينزلهما منزلة التقديس ولكنه في الوقت نفسه يطرح التساؤلات حول الكثير من أفعال الخليفة الثالث!
وفي فيلم «سيدة الجنة» يتهم ياسر الحبيب أبا بكر وعمر، وهما الخليفتان الراشدان لدى السنة وبعض الشيعة، بالتسبب بوفاة السيدة فاطمة عَمْداً أو بشكل غير مباشر.
وباختصار فإن هذا الاختلاف بين «المقدَّس» و«المدَلَّس» ينطبق على المتقدمين والمتأخرين سواء. فصلاح الدين مثلاً مبجّل لدى فريق بوصفه محرّر بيت المقدس من الصليبيين فيما هو متهم لدى فريق آخر بالقضاء على الحضارة الفاطمية. كما أن الإمام الخميني يعتبره البعض قائد أهم ثورة في القرن العشرين فيما يراه البعض الآخر مخرباً أسس لزعزعة المنطقة وتقسيمها مذهبياً.
إذن فإن تحديد المقدسات قد يكون مسألة شديدة التعقيد وليست بالسهولة التي يتخيلها البعض، وهذا ما يجعل الأمر يدور بين وجهين. إما ترك تحديد المقدسات لصاحب العمل الفني وهذا يتطلب حداً أقصى من التسامح والتقبل من عامة الناس، وإما اتفاق السنة والشيعة على تحديد المقدسات.
والمعضلة أن الحل الأول دونه عقبات أهمها أن ثقافة التسامح ليست في عصرها الذهبي حالياً حيث نلحظ تنامياً مضطرداً للأفكار التكفيرية والإلغائية. وأما الحل الثاني فدونه خرط القتاد بسبب اتساع الهوة بين الفريقين في مقاربة الكثير من الأحداث التاريخية المحورية، رغم أن تجربة فيلم «الرسالة» قد تشكل سابقة يُعتمَد عليها لإنتاج أعمال أخرى.
لا شك أن لياسر الحبيب مشروعاً وأجندات تهدف إلى إثارة الفتنة والطائفية والكراهية بين المسلمين، وهذا أمر لا يتناطح فيه كبشان. ولكن مقارعة أجندته لا يمكن أن تبدأ بالتظاهر أمام دور السينما بل يجب أن تبدأ من مقاعد الدراسة عبر بناء مشروع ثقافي مناهض متسامح يؤمن بالتعددية وقبول الآخر وبحرية الرأي واحترام المقدسات. ذلك أيضاً يتطلب مقاربة أكثر مرونة للتاريخ، ونقداً بنّاء لما لصق بالتراث وتَسَمّى زورا بالـ«المقدسات». أي بتعبير آخر فإن الخطر الثقافي الذي يواجه المسلمين هو الخلط بين «المقدَّس» و«المدلَّس» والعجز عن تنقية التراث من شوائبه الغثة.
قال الإمام علي في إحدى خطبه وهو يحث أتباعه على قتال أهل الشام: «أن هؤلاء القوم سَيُدَالُون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم».
وإنه لأمر عجيب أن يستطيع ياسر الحبيب ومؤيدوه في بريطانيا على قلتهم أن يجتمعوا على باطلهم وينتجوا فيلماً قدر تمويله بأكثر من 15 مليون دولار فضلاً عن تجهيز قناة تلفزيونية بأحدث التقنيات وبناء مسجد (مسجد السبط الثالث المُحَسّن) ومركزاً ضخماً داخل ما سُمي بـ«أرض فدك الصغرى»، فيما تعجز الأمة مجتمعة على الإتيان بعمل فني يُذكر بعد فيلم «الرسالة» ليكون مدماكاً يُبنى عليه صرح التقريب الحقيقي الذي طال انتظاره.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply