صبحي غندور
احتفل الأميركيون الأسبوع الماضي بذكرى نجاح ثورة استقلالهم عن التاج البريطاني، في العام 1776، بقيادة جورج واشنطن وبدعمٍ من جيش فرنسي قاده الجنرال لافاييت. ومن المفارقات الملفتة للانتباه في تاريخ التجربة الأميركية أن بريطانيا كانت خصم الأميركيين وعدوّهم الأوّل، ثمّ أصبحت في منتصف القرن العشرين وما بعده أهمّ حلفاء الولايات المتّحدة، بينما فرنسا التي كانت أكثر من ساعد الثورة الأميركية حين قيامها، وحيث للفرنسيين فضلٌ كبير في نجاحها وفي دعم نظام الحكم الأميركي الجديد، تتباين سياساتها مع الولايات المتّحدة في عدّة قضايا ومحطّاتٍ زمنية. ولعلّ في ذلك تأكيداً لمقولة إن في العلاقات الدولية ليس هناك صديقٌ دائم أو عدوٌّ دائم وإنّما مصلحةٌ دائمة!
التاج البريطاني لم يعترف بالاستقلال الأميركي عنه إلاّ بعد سبع سنوات (في العام 1783)، ثمّ حصلت معارك عسكرية بين الإنكليز والأميركيين في مطلع القرن التاسع عشر (1812–1814) بسبب تدخّل الجيش الأميركي في المستعمرات البريطانية في كندا، وممّا أدّى إلى احتلال قوّة عسكرية بريطانية للعاصمة واشنطن وحرق المقرّ الرئاسي (البيت الأبيض) ومبنى الكونغرس.
وربّما أكبر محنة عاشتها التجربة الأميركية، منذ بدايتها قبل حوالي قرنين ونصف قرنٍ من الزمن، هي محنة الحرب الأهلية بين العامين 1861 و1865، حيث حارب فيها النظام الاتّحادي بقيادة إبراهام لنكولن (الجمهوري) الانفصاليين في إحدى عشرة ولاية جنوبية كانت تعترض على قرارت واشنطن بإنهاء العبودية وتجارة الرقيق، إضافةً طبعاً لمصالح اقتصادية رأتها الولايات الجنوبية من خلال تحقيق الانفصال. وقد سقط ضحية الحرب الأهلية حوالي 700 ألف جندي من الطرفين الشمالي والجنوبي إضافةً إلى أعدادٍ كبيرة من المدنيين.
الولايات المتحدة، وهي في عيد ميلادها هذا العام، تحتاج لوقفةٍ مع نفسها لمراجعة ما يسود الآن في المجتمع الأميركي من انقساماتٍ شديدة على قضايا عديدة. فهناك ازدهارٌ لظاهرة التسلّح الفردي في عدّة ولايات أميركية، ولممارسات عُنفية مختلفة الأسباب والأنواع. وبدأت الجماعات العنصرية تنتعش من جديد ضدّ الأميركيين الأفارقة، وهي عنصرية حاقدة تشمل الآن المهاجرين الجدد عموماً، وخاصة من أميركا الوسطى واللاتينية ودول شرق آسيا والعالم الإسلامي. وهو أمرٌ معيب لكلّ مواطنٍ أميركي يُدرك في قرارة نفسه أنّه هو أيضاً ينحدر من عائلة مهاجرة، وربما من أشخاص ساهموا في قتل أصحاب الأرض الأصليين الذين اُطلق عليهم اسم «الهنود الحمر».
لكن كيف يجوز لمن كانوا هم أصلاً من أتباع الجنسيات البريطانية والأوروبية أن يثوروا بانتفاضاتٍ مسلّحة على جيش التاج البريطاني فقط لأنّهم سكّان مستعمراتٍ تدفع الضرائب ولا تتمثّل في البرلمان البريطاني ولا تقرّر أمورها بنفسها، بينما تقف الإدارات الأميركية ضدّ حقّ الشعب الفلسطيني بتحرير أرضه وبمقاومة المحتلّ الإسرائيلي الإستيطاني؟ الأميركيون الثائرون ضدّ التاج البريطاني كان يحقّ لهم عشيّة ثورتهم إتلاف حمولة باخرة الشاي البريطانية (من هنا جاءت تسمية «حزب الشاي») وبمقاطعة البضائع القادمة من بريطانيا، بينما الكونغرس الأميركي ووزارات أميركية تُعاقب الآن من يقاطعون البضائع الإسرائيلية.
أيضاً، الإدارات الأميركية بحاجةٍ إلى تفسير سياساتها خلال حقبة جمال عبد الناصر في مصر الخمسينات والستّينات من القرن الماضي، حينما كانت تعترض على دعم ناصر لشعب الجزائر في ثورته ضدّ الاحتلال الفرنسي ولشعب عدن ضدّ الاحتلال البريطاني وللشعب الفلسطيني ضدّ الغاصب المحتلّ الإسرائيلي، بينما لم تنجح الثورة الأميركية من دون دعم الفرنسيين والجنرال لافايت. أيضاً ما قامت به الولايات المتّحدة من تدخّلٍ عسكري في المستعمرات البريطانية في كندا لمساعدة الراغبين بالاستقلال عن التاج البريطاني.
الأوساط السياسة والإعلامية الأميركية تتعامل مع إسرائيل على أنّها «الدولة الديمقراطية الحقيقية» في الشرق الأوسط، بينما هذا النموذج «الديمقراطي» الإسرائيلي الذي يقوم على عنصرية دينية يهودية. وهو «نموذج»، إن جرى الأخذ به في الشرق الأوسط، سوف يعني تقسيم المنطقة العربية إلى دويلاتٍ طائفية.
طبعاً، إن عدم أحقّية «النموذج الديمقراطي الإسرائيلي»، لا يعني أن البلاد العربية هي بخير وأنها لا تحتاج إلى إصلاحٍ وتغيير. وقد يكون أجدى للعرب، ما دامت الحلول لا تأتي إلا «معلّبةً» من الخارج، أن ينقلوا معركة «النموذج المطلوب» إلى داخل الساحة الأميركية، أي أن يطالبوا واشنطن بالعمل على تطبيق «النموذج الأميركي» نفسه في المنطقة العربية.
فالتجربة التاريخية للأمّة الأميركية فيها الكثير من الإيجابيات التي تحتاجها الآن الأمّة العربية. وقد أخذت الدول الأوروبية بالنموذجيِّ منها فعلاً حينما تحرّرت من المرحلة النازية–الفاشية، ثمّ حين بنت مجتمعاتٍ قائمةً على أنظمة دستورية ديمقراطية، واتّجهت إلى التعاون والتكامل والاتّحاد أملاً منها بالوصول إلى حالة «النموذج الأميركي»، كأمّة موحّدة قائمة على ولاياتٍ متعدّدة ونظام دستوريّ ديمقراطي يحفظ اتّحادها.
العرب، أكثر من الأوروبيين، هم الآن بحاجة إلى الخلاصات الإيجابية من التجربة التاريخية الأميركية. فالأمّة الأميركية لم تكن موجودة أصلاً كأمّة قبل قيام الاتّحاد الدستوري بين ولاياتها الثلاث عشرة التي شكّلت انطلاقة الولايات المتّحدة الأميركية. وإذا كان بعض العرب لا يقبلون بمنطق وجود (أمّة عربية) لأسباب إقليمية أو أممية، فليأخذوا العبرة من نشوء الأمّة الأميركية وتحوّلها إلى أقوى أمم العالم المعاصر.
لكن في التجربة التاريخية الأميركية محطّات وخلاصات وأولويات من المهمّ التوقّف عندها وهي: مرحلة التحرّر من الاحتلال والهيمنة الخارجية، ومرحلة البناء الدستوري القائم على أساس المواطنة وحقوق الولايات، ثم مرحلة الدفاع عن وحدة الأمّة من خلال الحرب الأهلية التي لولاها لكانت أميركا اليوم دويلات متصارعة.
فلِمَ يحقّ لأميركا ما لا يحقّ لغيرها؟ لِمَ يأخذ بعض العرب بمطالب واشنطن في جانبٍ واحدٍ فقط، كالحديث عن الديمقراطية، ولا يطالبون بكامل خلاصات تجربتها التاريخية العظيمة؟ لِمَ تُحرّم واشنطن أيّة مقاومة للاحتلال، وهي عاصمة تحمل اسم من قاد معركة المقاومة والاستقلال ضدّ الهيمنة البريطانية؟
إنَّ العرب يريدون لأمَّتهم ما أراده الأميركيون للأمَّة الأميركية حينما تحرّروا من الهيمنة البريطانية، وما فعله الأوروبيون في قارّتهم المليئة بالصراعات الدموية التاريخية وبالتنوّع الديني والإثني والثقافي.
العرب يريدون لأمَّتهم تكاملاً بين أوطان الأمَّة الواحدة وتطويرَ صيغ العمل العربي المشترك وصولاً إلى النموذج الاتّحادي الأوروبي، إنْ تعذَّر الوصول الآن إلى النموذج الفدرالي الأميركي. العرب يريدون في أمَّتهم تثبيت وحدة الأوطان ووحدة المواطنين ورفض أيّة دعواتٍ انفصالية أو تقسيمية في أيّ بلدٍ عربي.
من المهمّ أن يُدرك العرب بأنّ ما حدث ويحدث معهم قد عاشت مثيله أيضاً أكبر قوّة عالمية، ولم تكن المحن في التاريخ الأميركي سبباً للتخلّي عن الهُوية الأميركية، أو لتحويل الانقسامات الداخلية إلى مبرّرٍ لقبول تقسيم الأمّة الواحدة وتفكيك الاتّحاد الأميركي.
Leave a Reply