وليد مرمر – لندن
لئن كان في «العود إلى الماضي ترويح للنفس وتبريح» كما كتب أمين الريحاني في مُؤَلفه «قلب لبنان» فإن العود إلى ذكرى الحرب –لا شك– ينكأ الجراح لدى كثيرين ويسترجع صوراً قاتمة من الماضي الذي ما زال ينفث سمومه في حاضرنا شئنا أم أبينا.
46 عاماً قد مرت على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة في 13 نيسان 1975. حرب فتتت الكيان اللبناني وأنهت حلم «سويسرا الشرق» الذي صدقه اللبنانيون لحوالي عقدين من الزمن.
فهل كان لبنان حقاً سويسرا الشرق كما أخبرنا آباؤنا أم كان «باناما الشرق» كملاذ لحركة الأموال المشبوهة تحت عنوان السرية المصرفية؟
لقد كان لبنان بحكم تركيبته التعددية، وإلى حد ما «ديمقراطيته» وبعده عن الصراعات الأيديولوجية في المنطقة إضافة إلى عوامل أخرى، منطلقاً استخباراتياً للأجهزة العالمية لزعزعة وتقويض العديد من الأنظمة في الوطن العربي. ولقد استلزم ذلك وجود معاملات مصرفية سرية تتيح إنجاز تلك العمليات من دون أية رقابة قضائية. أضف إلى ذلك عمليات غسيل الأموال وتغطية حركة البترودولار للأمراء والرؤساء وزبانيتهم إبان العصر الذهبي لإنتاج النفط العربي. لذلك عمدت الولايات المتحدة إلى إيجاد مبدأ السرية المصرفية والتي يظن الكثير سذاجة أنها كانت بناء على اقتراح نائب واحد (ريمون إده) عام 1956. والعجيب أن لبنان صار أكثر صرامة في تطبيق السرية المصرفية من بلدان رائدة في هذا المجال كسويسرا واللوكسمبورغ!
لقد بقي القطاع المصرفي الذي موّل الحرب الأهلية سليماً معافى بقرار دولي رغم وجوده بين خطوط التماس في أكثر المناطق خطورة بالقرب من أسواق بيروت القديمة.
تختلف آراء المحللين حول السبب الرئيسي للحرب اللبنانية. لكن المنعطف الأساسي الذي حول لبنان من قاعدة آمنة إلى بؤرة للصراعات الإقليمية والمحلية كان لا شك اتفاق القاهرة عام 1969 الذي أوجدته المارونية السياسية، والذي وقعه الرئيس الراحل ياسر عرفات وقائد الجيش اللبناني إميل البستاني ممثلاً الرئيس شارل الحلو الذي كان عضواً في «حزب الكتائب» قبل انتخابه.
هذا الاتفاق شرع العمل الفدائي لمنظمة التحرير الفلسطينية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية وهو ما أعطى المسوغ لإسرائيل للقيام بالإعتداءات المتكررة على لبنان منذ ذلك الحين وحتى اجتياح 1982.
لقد استقطبت مبادئ الثورة الفلسطينية، اليسار اللبناني والحركات الشعبية والأحزاب التي كانت تعاني من تعسف النظام اللبناني لصالح المارونية السياسية، فحصل تحالف «طبيعي» وقتها بين هذه المكونات. وفي المقلب الآخر كانت الأحزاب اليمينية (المسيحية بمعظمها) قد بدأت التسلح والتدريب ولو بأشكال متفاوتة منذ ما بعد الانسحاب الفرنسي من لبنان. وإنما يشهد اسم «الكتائب اللبنانية» على هذه الحقيقة.
أما إسرائيل فقد حاولت منذ نشأتها مد جسور التواصل مع الموارنة كدأبها مع كل الأقليات في المنطقة كالأكراد والأمازيغ والبربر والدروز وغيرهم، ربما باستثناء الشيعة الذين تغلبت عقيدتهم الدينية وولاؤهم الوطني والعروبي على «الريلبوليتيك» فاختاروا مقارعة عدو غاشم على خطوط النار.
يورد الكاتب آلان مينارغ في كتابه «أسرار حرب لبنان من انقلاب بشير الجميل إلى حرب المخيمات الفلسطينية» أن الاتصالات الأولى بين «الكتائب» وإسرائيل تعود إلى العام 1951 عندما طلبت قيادة الحزب مساعدة ماليّة تحضيراً للانتخابات النيابية. وعندها قام وزير الخارجية الإسرائيلي، موشيه شاريت، بتقديم حوالي ثلاثة آلاف دولار أميركي للحزب اليميني على الرغم من تشكيكه بحظوظهم بالفوز في الانتخابات. والمعروف أن حزب الكتائب كان قد تأسس كحركة قومية شبابية سنة 1936 على يد بيار الجميل مستوحياً الفكرة من الأحزاب الفاشية الأوروبية كحزب «الكتائب الإسبانية» و«الحزب النازي» الألماني وذلك بعد زيارته لألمانيا خلال الحقبة النازية مشاركاً بالألعاب الأولمبية. ولقد كان للكتائب الدور المحوري خلال الحرب الأهلية في «المناطق المسيحية» لاسيما بعد أن تولى بشير الجميل القضاء عسكرياً على كل المكونات الأخرى حتى من أقرب حلفائه.
أما الأحزاب اليسارية والقومية والعروبية فقد انضوى معظهما (باستثناء حركة «أمل») تحت لواء الحركة الوطنية والتي كانت حينها بقيادة الراحل كمال جنبلاط. وتحالفت هذه الأحزاب مع منظمة التحرير الفلسطينية والتي كانت تمول العديد منها إضافة لطرق تمويل أخرى كالقذافي في حين قامت جهات أخرى كالسعودية وعراق صدام حسين بتمويل اليمين اللبناني.
ورغم أن حادثة بوسطة عين الرمانة التي نفذها حزب «الكتائب» بحق مدنيين فلسطينين تُعتبر الشرارة التي أشعلت الحرب فإن من نافلة القول إن الأوضاع كانت ستنفجر لسبب أو لآخر وليست حادثة البوسطة إلا الشرارة المباشرة لا السبب الحقيقي وراء اندلاع الحرب.
وخلال حرب السنتين اللتين أعقبتا حادثة البوسطة انهار الكيان اللبناني أمام ذهول اللبنانيين لهول ما كان يحدث. احترقت بيروت وتقطعت أوصال المناطق بين مسيحية وإسلامية ودخلت في قاموس اللبنانيين مصطلحات لم يعهدوها من قبل كخطوط التماس والحواجز الطيارة والخطف على الهوية «والطرق السالكة والآمنة» أو «السالكة وغير الآمنة» أو «غير السالكة ولا الآمنة» والتي كان الراحل شريف الأخوي يبث أخبارها عبر الإذاعة اللبنانية التي كان يتابعها اللبنانيون قبل تخطيط تنقلاتهم اليومية اتقاءً للقصف والقنص والحواجز غير المتوقعة.
ومرة بعد أخرى عمدت المارونية السياسية إلى الاستجداء بسلاح غير لبناني، فتم إقرار إرسال قوات الردع العربية التي تحولت إلى قوات ردع سورية.
لكن الأزمة لم تنته بل تفاقمت مع وجود جيش سوري كبير مدجج بأسلحة لم تعهدها الميليشيات اللبنانية كقذائف الـ155 والغراد والدبابات. ثم ما لبث هذا الجيش الذي دخل لبنان لمساعدة الموارنة وإسقاط مخيم تل الزعتر وقصف مناطق اليسار اللبناني، ما لبث أن انقلب إلى الجهة الأخرى أو بالأحرى انقلب عليه حليفه المسيحي مما أدى إلى حصول معارك عنيفة بينهما لا تُنسى سيما معارك الأشرفية وزحلة.
ولم تقتصر الحرب الأهلية على المعارك «الكلاسيكية» بين «الغربية» و«الشرقية» بل تعدتها إلى معارك جانبية شتى بين الأعداء كما بين الحلفاء نتذكر منها على سبيل المثال لا الحصر معارك «الأحرار» و«القوات» و«أمل» و«الشيوعي»، وحرب المخيمات، ومعارك «أمل» و«المرابطون»، و«أمل» و«قوات أبو شاكر»، و«أمل» و«الحزب الإشتراكي» فيما عُرف بـ«معركة العلم»، مروراً باجتياحين إسرائيليين عامي 1978 و1982، ثم مجازر المخيمات الفلسطينية التي نفذتها« القوات اللبنانية» وحلفاؤها، ثم معارك الجبل بين «الاشتراكيين» و«القوات اللبنانية» وانتهاء بمعارك ضارية بين «أمل» و«حزب الله» ثم باشتباكات عنيفة بين الجيش اللبناني بقيادة عون من جهة والقوات السورية من جهة ثانية فيما عُرف بـ«حرب التحرير»، ثم بين الجيش اللبناني و«القوات اللبنانية» فيما عُرف بـ«حرب الإلغاء».
وتخللت تلك الحروب معارك جانبية عديدة إضافة لتفجيرات لا تُحصى لسيارات مفخخة كانت تُركن عادة في أحياء شعبية وذلك من أجل زيادة حصيلة الضحايا.
وبالنظر إلى التاريخ يُمكن للمراقب أن يستنتج أن معظم الحروب التي حدثت كانت حروباً عبثية بكل ما للكلمة من معنى.
فعندما جاءت اللحظة الدولية المناسبة أُخذ القرار بإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989 لدى توقيع اتفاق الطائف ولكن لم تنته الحرب فعلياً إلا عام 1990 عندما كُلفت سوريا بإنهاء «التمرد العوني» ثم بإدارة الملف اللبناني مقابل موافقتها على عملية «عاصفة الصحراء» لإخراج القوات العراقية من الكويت.
ولكن هل كان اتفاق الطائف فعلاً، الدواء الشافي لتقاتل اللبنانيين وغيرهم على مدى 15 سنة؟ وهل أن كل ما حصل فعلاً كان من أجل تساوي عدد النواب المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي وفق قاعدة 6 و6 مكرر؟ وهل سقط عشرات آلاف الضحايا كيما تُؤخذ بعض صلاحيات الرئيس الماروني وتُعطى لرئيس الحكومة السني؟
إن أقل ما يُقال عن الطائف أنه كان اتفاقاً مجحفاً للمسيحيين والشيعة سواء، والرابح الأكبر كان الشريك السني بفضل الدعم السعودي.
كيف قبل أمراء الطوائف بأن يُعقد اجتماع إنهاء الحرب في السعودية وهي الحليف الطبيعي للسنة في لبنان؟ وهل كانت المملكة محايدة في الحرب اللبنانية؟ بالطبع لا.
إذن لِمَ لم يُعقد الإجتماع في بلد محايد كما يحصل عند انتهاء الحروب وحتى مع وجود منتصر ومهزوم؟ ثم إن من قام بتمثيل الشعب اللبناني في الاتفاقية كان 62 نائباً بقوا على قيد الحياة من أصل 99 نائباً منتخباً منذ ما قبل عام 1975 (مع تغيب ثلاثة)! فكيف لتلك الحفنة من النواب المنتهية صلاحيتهم منذ أكثر من 15 سنة أن يوقعوا على الدستور الثاني للبلد؟ وعلى فرض أنه لم يكن بد من تلك التوليفة لإنهاء الحرب فلم لم يُعمد إلى الاستفتاء الشعبي العام على دستور الجمهورية الثانية –أي ما أصبح يُعرف باتفاقية الطائف– كما يحصل في كل دول العالم؟
والدليل الدامغ على عقم هذا الاتفاق المسخ أنه لم ينتج كياناً متماسكاً، بل أنتج أوطاناً طائفية لم تستطع أن تبني وطناً فحسب، بل قامت بسرقته وإفساده خدمة لمصالحها الخاصة عبر تأجيج الولاءات المذهبية على حساب المواطنة، حتى أصبح لكل طائفة لبنانها وزعيمها وتاريخها وجغرافيتها… بانتظار حلم الجمهورية الثالثة!
Leave a Reply