أزمة الضمير العربي:
العرب العمالقة والعرب الاقزام
مالذي يجري في واقع العرب اليوم، المشهد ضبابي متداخل، الحيرة تكاد تكون عامة، لقد اختلطت القيم والحقائق، وانهارت ثوابت وبرزت أخرى.
من حولنا، يمتد واقع اللا يقين مع مآسٍ تكبر لتخنق وتحاصر كل فجر يبزغ أو كل حلم يُبشر بغدٍ أفضل.
أبواق ناعقة في كل فضاء وركن، وسماء تمطر أخبارا غثّها أكثر من سمينها، عاصفة لوثت محيطنا وضربت ضميرنا الجمعي وعقلنا العربي. نعم، إن العتمة التي تنتشر حولنا سببها حالة التخدير التي أصيب بها العقل العربي، لذلك يجب ألا نستغرب من أن يقلب هذا “العقل المسطول” الحقائق، فيقول وزير دولة عربي انه يشعر بتأنيب الضمير بسبب معاناة شعب شقيق في حين تقمع دولته شعبها وجيرانها وتمدّ بالمال جماعات تعيث في الارض فسادا وتبذر الحقد والقتل أينما كانت.
الرِدّة، هي عنوان زمن العرب الجديد، آفة تتغلغل في كل ما حولنا تريد أن تُجهز على ما تبقى من قيمنا وثوابتنا.
الوطن والوطنية صار “كلام ما بطعمي خبز”، تصوّروا أن الثوري صاحب المبدأ يقبض راتباً مقابل ثوريته وهاهم “أخوتنا” في الخليج يقررون دفع الرواتب للعناصر المسلحة في سوريا. نعم انهم يعملون على أن يصبح المال هو المقياس الجديد لتمييز الحق من الباطل، الشاطر من يبيع ويَهبُر ويقبض. نعم أصبحنا نرى عربياً يفجّر أهله أو سكة حديد أو مدارس أو جسور، دون أن يرف له جفن، تلك المنشآت التي سقاها الشعب بالعرق وبذل فيها المال والجهد الكثير لتكون في خدمة كل أفراده.
أهل الردّة، إنهم ظاهرة من العرب بدأت تتفشى في المنطقة، ينفثون سمومهم و”قيمهم” الجديدة في حلّهم وترحالهم. إنهم يريدون أن يكرّسوا حقيقة جديدة، وهي أن قيمة العرب الاولى الآن هي شنطة المال التي تبيع وتشتري وتتآمر وتنفذ، لكنها، للأسف، شنطة مأمورة في كل ما تفعل صاغرة ومهزومة، لذلك هي تسعى لكي تتغلغل وتكرّس روح الهزيمة لدى الجميع.
يعمل عرب الردة هؤلاء على إسقاط ما تبقى من قلاع العرب الشامخة بأيّ ثمن حتى تعمّ الهزيمة وتتساوى الرؤوس “ومافيش حد أحسن من حد”.
نعم، إنه زمن أريد له أن يكون زمن الرّدة يقوده عرب بضمائر وعقول من صلصال، إنه زمن تعملق العرب الأقزام.
من الدولة الى الدويلة الى القبيلة
إستطاع العرب على امتداد تاريخهم الطويل أن يبنوا دولاً قوية ضمت شعوباً وديانات مختلفة وعرفت عصور ازدهار يشهد التاريخ والشعوب الأخرى بما قدمت للبشرية من حضارة ونبوغ وقيم ساهمت في دفع عجلة تطور الانسانية. لكن وبعد عطاء غزير تقهقر الدور العربي بعد تسلط الاتراك العثمانيين وافتّكوا المُلك العربي، وازدادت المنطقة تخلفاً في العصر الحديث بعد تقسيم البلاد العربية إثر اتفاقيات “سايكس بيكو” الى دويلات أُريد لها أن تكون متصارعة. وقد انتهى الامر بهذه الكيانات المصطنعة، المسمات دولا عربية، الى التقهقر الى حد العودة الى استحضار انتماءات قبلية قديمة خِلنا لزمن أن قد طواها الدهر، لكن للأسف عادت الشعوب القهقرى، وعاد الحديث عن الإنتماء الى قبائل تميم وقيس وغيرها… رغم أن ذلك مازال يتم تحت مظلة ومسميات دويلات “سايكس بيكو”، إلاّ أنّه يعتبر ردة عن روابط العروبة والإسلام تُنبئ بمزيد العودة بالمنطقة الى شرذمة القبائل والطوائف، ما يعني عودة على بدء لقيام التطاحن القبلي وتفتيت المنطقة من جديد.
الردة، مسّت كل نواحي الحياة، حتى المنظمات التي، على علاّتها، كانت توفّر قدراً أدنى من التضامن العربي، مثالا على ذلك الدور الجديد والمشبوه والتفتيتي الى تمارسه جامعة الدول العربية التي تحولت عن دورها في جمع العرب وتوحيدهم الى أن أصبحت أداة تجزئة في يد قبائل الحجاز والجزيرة العربية لخدمة أجندات اقليمية ودولية، كل اهدافها العودة بالمنطقة الى التطاحن القبلي والديني الذي كان أحد أهم عوامل التخلف وشد العرب والمنطقة الى عصور الظلام.
الدور الإقليمي تجاوز مسّ التضامن ووحدة العرب والمسلمين الى محاولة الى تشويه الرموز التاريخية أو التي كان لها دور ما في جمع العرب، فقد قام “ثوار” العهد الجديد في ليبيا بتحطيم نصب تذكاري للزعيم عبد الناصر وهو ليس تحطيم لتمثال شخص بقدر ما هو موقف من رمزية مرحلة عرفت فيها شعوبها العربية النصر والهزيمة، لكنها لم تعرف قط طأطأة الرؤوس والهرولة حيث حتفها كما يفعل عرب القبائل الآن.
المال والثروات “المتلتلة” التي يملكها العرب والتي من المفترض أن تكون عامل نعمة وتنفق في البناء والنماء بالمنطقة ، لكنها ارتدت لتصبح عامل نقمة وليتحول دورها الى تدميري وتخريبي وبث الفرقة وإشعال الفتن والحروب.
انظروا كيف حول المال العربي ليبيا الى كومة خراب بعد أن تنادت قبائل الخليج لتنشر فيها الديمقراطية، حسب زعمهم، “فخربوها وقعدوا على تلّها”، ولا يزال استمرار بذل المال العربي الذي حوّل جزءاً من بلاد الشام الجميلة الى حطام، وقد تيتّمت وترمّلت بسببه الكثير من العائلات في سوريا، نعم إنه مال وقح لدول عاهرة لا تزال تذرف دموع التماسيح على الضحايا التي هي سبب نكبتهم وتصرّ على مزيد تعميق جراحهم عبر المال الذي لا يزال متدفقا عبر الحدود لتمويل الشر والتدمير بالسلاح والعتاد.
المعارضات التي من المفترض أن تكون وطنية تسعى الى الحفاظ على بلدانها، ارتد دورها لتصبح داعية لتدميره، فقط من أجل أن تحكم، حتى ولو كان ذلك على جماجم شعبها. وبعد أن دعت معارضة ليبيا الى شن الحرب على بلدها وتحويله الى أثر بعد عين تسوده الفوضى، ها هي معارضة سوريا المتحصّنة بالخارج تدعو الى الشيء نفسه لا يردّها في ذلك ولا يردعها ما حصل في ليبيا ولا مشاهد أشلاء السوريين الذين مزقت قنابل وبنادق “الثوار” اجسادهم في شوارع ومدن سوريا، وقد بلغ التذلل ببعضهم حدّ استجداء وزراء اسرائيليين على مدّ المعارضة بالسلاح، ورغم ذلك لازالوا يطلعون على الشاشات بلا خجل وبقلة حياء تدل على معادنهم، ليتحدثوا عن الوطن وحماية الشعب، وهنا لا يسعنا إلا أن نقول “إن لم تستحِ إفعل ما شئت، وقل ما شئت”.شر البلية العربية هم حكام النفط ومن لفّ لفّهم من الذين يعتقدون دائماً أنهم على حق وأن الريح ستكون دوماً في ركابهم وإلى جانبهم لتقود سفنهم الى شاطئ النجاة وينسون دائماً مبدأ السياسة وهو “لو دامت لغيرك لما آلت إليك”.
فلا فضّ فوه الشاعر الذي قال:
لا تأسفن على غدر الزمان لطالما
رقصت على جثث الأسود كلاب
لا تحسبن برقصها تعلو على أسيادها
فالأسد أسد والكلاب كــــــلاب
تبقى الأسود مخيفة في أسرها
حتى وان نبحت عليها كلاب..
من نحن؟ أزمة الهوية والانتماء
إستمرّ التقهقر وتزعزع الثوابت القيمية والروحية، حتى اشتبه الأمر على كثير من العرب وفي خضم ما يجري من حوادث وتكريس لقيم غريبة عنهم، بدأ تساؤل يلح ويضغط على العقول نتيجة أنّ ما يجري في واقع العرب غريب عنهم، فهل هم في واقع غير واقعهم؟ وإن كان ذلك كذلك، فمن هم إذاً؟ وان كان الواقع واقعهم فلماذا اشتبه عليهم الأمر حتى شكّوا بأنفسهم؟ والجواب، أن اشتباه الأمر على الناس مردّه القيم القديمة-الجديدة المستحضرة من الماضي بأفكار وعقائد مغالية ومنحرفة لم يحصل حولها إجماع، والتي يُراد فرضها اليوم على المجتمع رغم أن العرب لم يقبلوها لا في ثقافتهم ولا في تاريخهم المُجمع عليه، فأين ما يحصل من قتل على الهوية من قوله تعالى “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” و”لكم دينكم ولي ديني” و”لا تزِر وازرة وزر أخرى”، خاصة ونحن نرى قتل الاطفال بسبب مواقف أو مذاهب أهلهم. تتكرر مشاهد وحالات قتل الشيوخ والعجزة والآمنين في بيوتهم والتمثيل بالجثث والتدمير وحرق الأخضر واليابس المنتشرة في بعض الثورات الآن، أين كل ذلك من وصايا الإسلام في الحرب المأخوذة عن النبي (ص): “لا تقتل شيخاً ولا إمرأة ولا صبياً ولا عابداً في محرابه ولا راهباً في صومعته ولا شاباً ما دام لا يحمل السلاح، ولا تقطعوا شجرة ولا تردموا بئراً ولا تجهزوا على جريح ولا تمثلوا بقتيل”.
أين رجال الدين الذين يطلون علينا هذه الأيام على الشاشات ليفتوا بالقتل والحرق والتدمير؟ أين هم من فقهاء المسلمين الذين كانوا عامل توحيد للمجتمع ودعاة سلام وكان الواحد منهم رغم غزارة علمه يستنفذ كل الأسباب والذرائع حتى يتجنب الفتوى بسفك الدماء؟ أين فقهاء سلاطين الخليج الذي يفتون حسب الطلب والمقاس من فقهاء المسلمين الذين كانوا يرفضون مناصب القضاء حتى لا يضطرون للفتوى بما تقتضيه مصلحة السلطان، وإن حصل وقبلوا القضاء حكموا بالعدل والقسطاس؟ أين دعاة الفتنة الطائفية الآن من قوله الشريف (ص) “أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم، اهتديتم”. ولقد صدق الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قال: “لايزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعلمائهم فإذا أخذوا عن صغارهم وشرارهم هلكوا”.
لقد طبعت الرّدة حياة العرب وكشفت عن وجهها الكالح حتى كادت تخلق لديهم أزمة هويّة من شدة ما شاهدوا من الأفكار والقيم والعقائد والممارسات الغريبة عن أصالة الثقافة العربية التي كانت دوما تنتهج الإعتدال. وقد مثلت المنطقة العربية على مرّ تاريخها نموذجاً فريداً للتعايش السلمي بين مختلف أطياف نسيج المجتمع، ولم يكن مرض الطائفية يطلّ برأسه الاّ اذا لعبت القوى الخارجية بالتحالف مع أصحاب المصالح من العرب في تحريك المياه الراكدة وضرب شعوب المنطقة بعضهم ببعض حتى يمكنهم النفاذ لخيراتها والسيطرة عليها. ما عدا تلك الفترات عاشت المنطقة العربية في إطار ثقافة تعتز بأصالتها وتحترم التنوع وثقافة الآخر.
Leave a Reply