محمد العزير
من نكد الدنيا على العرب في القرن العشرين، وامتداداً إلى القرن الحالي أن القدر، (وفوق نكبة الصهيونية المدعومة وقيام الكيان الإسرائيلي)، ابتلانا بثلاثة؛ البدائية والأنظمة العسكرية وتسييس الدين. ربما يفترض التدقيق أكثر، في العاملين الأخيرين لجهة أي منهما يتقدم على الثاني، لكن الوقائع تؤيد تقدم بلاء الدبابات التي اهتدت إلى مباني الإذاعات بعد انكفاء الاستعمار والانتداب الأوروبيين لتعلن الانقلابات «الثورية»، على وباء الدين السياسي بجميع مذاهبه والذي انتشر بهمة أميركية عالية قبيل وأثناء وبعد انتهاء الحرب الباردة، فأصبحت اللفات البيضاء والخضراء والسوداء أو الملفوفة حول الطرابيش الحمر تأمر وتنهي وتميت وتحيي، وعلى منوال الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى تبت في كل شيء وتبيع صكوك الغفران، أو الحوريات ومفاتيح الجنان (في حالتنا المزرية) وهي منزهة عن أي خطأ.
قبل أن تنتهي احتفاليتنا الضحلة جداً بشهر العرب الأميركيين (الرسمي وعلى أعلى مستوى)، شاءت الأحداث أن نتابع بالعين المجردة والبث المباشر سلسلة من عينات التقصير الفاضح في دعم قضايا الحق والتسابق إلى التدليس والتزييف لإعفاء الذات من «شر القتال» من خلال التمترس خلف شاشات الكمبيوتر أو التلفونات الذكية للإدلاء بدلو يفيض جلداً للذات، ويمعن في الانسياق وراء الأفخاخ الصهيونية المدروسة جيداً لتلمس الشعور بالرضى عن الاشتراك في معمعة النقاش والذود عن حياض «القضية».
نحن بحاجة إلى عقول أنظف. نحن بحاجة إلى إقالة أو تجاوز رموز مرحلة غابت عنها شمس الفعل. نحن بحاجة لإفساح المجال أمام جيل الشباب العربي الأميركي الذي أثبت في العقدين الأخيرين أنه أكثر شجاعة ودراية ومعرفة وتدبيراً، رغم عدم إجادته للشعر، ولا حفظه لغابات شجر العائلات، ولا عنايته بتراتبية «اجتماعية» مستوردة، لو كانت نافعة لما هاجر أهلها. نحن نحتاج إلى الذين كانوا في الحراك المدني منذ الحرب المفتعلة أيام جورج بوش الأبن إلى الانكفاء المعيب أيام باراك أوباما إلى العنصرية الفاشية التي أحياها دونالد ترامب. هؤلاء الصبايا والشباب الذين كانوا دون إطار يجمعهم في كل خط مواجهة، أقدر من جيلنا ومنا على اجتراح الأمل من قلب اليأس. وحملة المقاطعة B.D.S التي أقضت المضاجع المريحة للصهيونية أفضل شاهد على ذلك، مع قلة الاحترام لبعض الأبواق العربية العقيمة (اليسارية الادعاء) التي تسرق شرف ريادتها.
شهدت الأيام القليلة الماضية جملة أحداث ومواقف مهمة، وردود الفعل عليها تغني عن دراسات وأبحاث لقياس العقل الجمعي العربي الراهن. في القدس المحتلة يتصدى شباب المدينة العزّل لمئات المستوطنين المجرمين المحظيين برعاية أمنية إسرائيلية من جيش وشرطة وحرس حدود. يظهر الشباب المقدسي شجاعة لا يعرفها إلّا صاحب حق وتؤازرهم صبايا القدس الرائدات على وقع أغاني الشعب السوري المنتهك… «جنة، جنة، جنة… تسلم يا وطنّا» لا شعارات دينية ولا مسكنة ولا تضرعات. في أقل من يوم يزيل أبناء القدس وبناتها الاحتلال وحواجزه وأسلاكه الشائكة من باب دمشق (باب العمود) يرقصون ويدبكون ويهللون ولا يمكن للمحتل أن يفعل شيئاً سوى المشاهدة عن بعد بعدما تصدى له المدافعون عن الحرم الشريف وأذلّوه على مداخله.
كيف ردّ المتأسلمون والممانعون على ذلك؟ نشروا تسجيلاً مسرباً لرئيس السلطة الواهية محمود عباس وهو يشتم الصين وروسيا وأميركا والعرب. اعتبروا أنهم بذلك يؤكدون أنهم أصحاب القضية وحماتها، وهم ببغائية بلهاء ينشرون الدعاية الصهيونية الليكودية التي زودتهم بالتسجيل. لم تعد القدس ولا فلسطين، القضية. صارت القضية هل دب الخرف بمحمود عباس؟ هل يحتاج أي فلسطيني عاقل (أو أي عربي على سبيل المقارنة) لينفعل كما انفعل «أبو مازن» على مساعد من فريقه يذكره بوجوب إرسال تهنئة لجمهورية الصين الشعبية لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي في الصين؟ لو كنت أنت مكانه ماذا سيكون الجواب بينما القدس تواجه هجوماً استيطانياً مدعوماً رسمياً (لأسباب انتخابية)؟
في التوقيت نفسه، تصدر منظمة «مراقبة حقوق الإنسان» Human Rights Watch، تقريراً مطولاً ومفصلاً عن انتهاكات حقوق الشعب الفلسطيني تحت احتلال من يدعون انهم ضحايا التمييز العنصري النازي تؤكد فيه أن النظام الصهيوني نظام فصل عنصري واضح وصريح ينبغي للمجتمع الدولي أن يتصدى له. وقال التقرير الذي ساوى بين عدد اليهود وعدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية بـ6.8 ملايين لكل منهما، إن النظام الإسرائيلي يعتمد قوانين وسياسات وإجراءات حولته إلى نظام اضطهاد وفصل عنصري (أبارتهايد) انطلاقاً من التشريع الخاص بالهوية اليهودية للدولة ما يجعل غير اليهود تلقائياً أقل حقوقاً.
وفصّل التقرير المؤلف من أكثر من 100 صفحة والذي أيدته الجمعية الحقوقية الإسرائيلية «بتسليم» بوقائع وتقارير موثقة كيفية تطبيق إسرائيل لسياستها المحرمة دولياً، من نواياها المعلنة رسمياً أو المنصوص عليها قانوناً إلى مواقف نخبها السياسية، إلى الخطوات الميدانية التي تحول الفلسطينيين على كل أرض فلسطين عرضة باستمرار للاضطهاد والحرمان والعدوان والاعتقال والسجن، فضلاً عن عزل المناطق السكنية الفلسطينية عن بعضها وجعل التواصل بينها عسيراً. ويخلص التقرير إلى دعوة الحكومة الإسرائيلية إلى التخلي عن سياساتها الراهنة وخصوصاً بناء المستوطنات، كما يحث الهيئات الحقوقية الدولية للنظر في الانتهاكات الإسرائيلية والجرائم ضد الإنسانية، ويناشد حكومات الدول الغربية والصديقة لإسرائيل إلى اتخاذ إجراءات حقيقية لردع السلوك الإسرائيلي.
وجاء في تقرير «بتسيلم» ما حرفيته: ترفض بتسيلم النظرة السّائدة إلى إسرائيل كدولة ديمقراطيّة تدير في الوقت نفسه نظام احتلال مؤقت وترى أنّ كلّ المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل –داخل الخطّ الأخضر وفي الضفة الغربيّة وشرقيّ القدس وقطاع غزّة– يقوم فيها نظام واحد يعمل وفق مبدأ ناظم واحد: تحقيق وإدامة تفوّق جماعة من البشر (اليهود) على جماعة أخرى (الفلسطينيّين). إنه نظام فصل عنصري–أبارتهايد. في الحالة الإسرائيليّة لم ينشأ هذا النظام بين ليلة وضُحاها وإنّما تمأسس واتّضحت معالمه بمرور الزمن. تراكُم هذه الخطوات بمرور السّنين وانعكاسها على نطاق واسع في القوانين والممارسة والدّعم الجماهيريّ والقضائيّ الذي حظيت به –كلّها تؤسّس للاستنتاج المؤلم في أنّ هذا النظام قد تجاوز السّقف الذي يقتضي تعريفه كنظام أبارتهايد.
وبدلاً من أن تشكل هذه الوثيقة الهامة منطلقاً لحركة ناشطة لفضح الاحتلال، خصوصاً في ظل التوسع الدبلوماسي الإسرائيلي المضطرد عربياً، ردت عليه منصات الإسلام السياسي والممانعة بترويج صورة مزورة تظهر برج خليفة في دبي مضاءً بالوان العلم الإسرائيلي الذي تتوسطه النجمة السداسية لتنطلق مخيلات الأصوات المرتفعة شتماً للعرب واجتراراً لكل مخزون جلد الذات ولوم الجميع، دون أي ذكر للتقرير أو الاحتلال أو إسرائيل، وكأن فلسطين تحت الاحتلال العربي.
وليكتمل النقل بالزعرور، وبعد أن عاب المتأسلمون على شباب القدس وصباياها أنهم كانوا يرددون الأغاني والأناشيد (غير الدينية) ويرقصون ويدبكون يداً بيد فرحاً بإجلاء المستوطنين وجنود الاحتلال من داخل ومحيط الحرم الشريف (الاختلاط محرم… وخصوصاً في رمضان)، أقدم عناصر من الضبط الميداني (الشرطة الدينية) التابع لحركة «حماس» بتوقيف المراسلة الفلسطينية رواء أبو مرشد التي دأبت على تغطية مسيرات العودة في غزة لأنها لم تكن ترتدي حجاباً، وتم اقتيادها مع فريق عملها إلى مقر أمني، وبعد تواصلها مع داخلية حماس أفرج عنها وأُعيدت إليها بطاقتها، الّا أن أحد «مطوعي» الضبط الميداني اعترضها أمام المقر وشتمها لأنها «سافرة» ثم انتزع غصن شجرة وجلدها به بطريقة وحشية على مرأى من زملائه الذين لم يحركوا ساكناً. ونقلت الزميلة، التي أصيبت بجروح وخدوش في كافة أنحاء جسمها، كان أبلغها في المناطق «المكشوفة» من وجهها ورقبتها وساعديها، إلى المستشفى للمعالجة. وبعد الاستنكار المهني والشعبي للإعتداء أعلنت «حماس» أنها ستفتح تحقيقاً في الحادث!
ما أعظم بلائنا، وما أحوجنا إلى استعادة هويتنا العربية الأميركية لنكون قادرين أمام تطورات كهذه أن نرفع صوتنا بفضل حريتنا هنا، وأن نعيد قضية فلسطين إلى واجهة الاهتمام، وأن نلعب الدور الريادي المقدور عليه.
Leave a Reply