مبروك للبنايين ديمقراطيتهم “الممذهبة” بعد إجراء انتخاباتهم البلدية والإختيارية التي إختلط فيها الحابل الحزبي بالنابل العائلي فضاعت “الطاسة” السياسية بين حلفاء الأمس وأعداء اليوم وتغيرت الألوان فأنتجت فسيفساء من التكاذب المشترك حتى لا ينحرف الوضع السياسي اللبناني عن الشواذ: المال السياسي الفاسد وشراء الذمم وعدم مراعاة النسبية والمعايير الحديثة في العملية الإنتخابية!
كم كان طريفاً هذا المسلسل اليومي الجديد: الإنتخابات البلدية. لقد تلهى بها السياسيون اللبنانيون لمدة شهرٍونصف ودفعوا في سبيلها الأموال الطائلة وكل غالٍ ونفيس لكي يحصلوا على مقعد في مجلس بلدي لا يغني ولا يسمن، فانشدت العصبية العائلية وراعتها الروابط الحزبية وانعقدت التحالفات حتى مع الشيطان نفسه من أجل الربح بالأصوات أوبالتزكية في القرى والبلدات التي لن تعرف وجه الرابحين بتاتاً في اليوم التالي للإنتخابات في حين ستبقى المشاريع الإنمائية في الأدراج “مخمجة” متعفنة لا تعرف وجه الشمس أو الهواء.
“السخاء” و”فت” الأموال على هذه الإنتخابات البتراء التي فرغت من مضمونها بعد نزع النسبية وإحباط مشروع قانون تخفيض سن الإقتراع إلى ١٨ عاماً رغم إستعمال الساسة للشباب كوقود في حفلاتهم المذهبية الممهدة للحروب الأهلية، هو أمرٌ غير مفهوم حتى بالمقاييس اللبنانية، وسط هذا الجنون الجماعي. فالبلدية لا تعني شيئاً في لبنان البلد العصي على الاصلاح. ذلك لأن مطلب المركزية الإدارية، شأنه شأن المطالب التي ناضل من أجلها جيلنا منذ نعومة أظافره كالتعليم الإلزامي المجاني والجامعة اللبنانية الوطنية، وإلغاء الطائفية السياسية و(نعم) تخفيض سن الإقتراع الذي أرعب الإكليروس والمدنيين المدعين بالتقدمية على السواء لأنه سوف يخل بالتوازن الديمغرافي، كلها قضايا محقة لم تبصر النور ولم تتحقق وذهبت أدراج الرياح و… وعود الوزراء والمسؤولين!
فرئيس البلدية عندنا لا يمون حتى على بيته ولا دور له مثل رؤساء البلديات في العالم الأول المتطور بعكس العالم المتخلف مثل بلادنا، التي سميت، تلطيفاً من أجل عدم جرح مشاعرنا، بالعالم الثالث في حين أننا نكون محظوظين إذا كنا في العالم المئة! وهذا “الرئيس” الصوري هو دائماً تحت رحمة وزير الداخلية أو الحكومة لايحق له أن يقلي بيضة من دون الرجوع إلى مرؤوسيه في كل شاردة وواردة. ورئيس البلدية عندنا لا يشبه بشيء رئيس بلدية باريس مثلاً أو لندن أو حتى طهران! فهذه بلديات هامة تتبع نظاماً ديمقراطياً عصرياً، لا نظاماً طافياً بطائفيته العنصرية البغيضة، وفي يدها الحل والربط في المشاريع الإدارية والإجتماعية والثقافية. أما بلديات لبنان “فلا تهش ولا تنش”. حتى مشاريع تزفيت الطرقات لا تنجز إلا في مواسم الإنتخابات! ثم بعد ذلك يظل المواطن الصبور ينتخب نفس الأشخاص في كل دورة لكي تبقى تدورعلينا الدوائر!
ولكن لأنه لبنان، فإنه حتى هذه الإنتخابات التافهة، صرفت فيها أموال كثيرة كما تدفق المال السياسي من قبل أبان الإنتخابات النيابية الماضية في حزيران ٢٠٠٩ التي علق عليها مصير الكون واستنفرت من أجلها السفارات وجيشت المغتربات وخاف من أجلها معقل الكيانية من ألا تقوم “عروبة” لبنان من الممات وبذلت فيها المليارات. فما كانت النتيجة؟ فازت جوقة “حراس” الأرز البوشية إنتخابياً وخسرت شعبياً كما قلنا في أول مقال بعد الإنتخابات. بل أكثر من ذلك، لم ينفع ثورة “الخبيز” هذا الفوز الإنتخابي في شيء لأن “السلس” المعطل(كما يلفظه الساسة اللبنانيون بلغتهم التي لا تمت بصلة قرابة للغة العربية) أعطي للمعارضة السابقة في حكومة “وحدة (موحشة) وطنية” وإستدار “الثوار” ايتام جون بولتون ١٨٠ درجة، إلى درجة وقوفهم في الصف لتقبيل السفير السوري في لبنان في عيد الجلاء! بالمناسبة، كم تمنى “الأرزيون” النشامى أن يستنسخوا الثورة “البرتقالية” في أوكرانيا التي انتهت بالأمس بعراك جسدي في برلمانها بسبب نزاع حول مفهوم السيادة، لكنهم اقلعوا عن الفكرة آنذاك بسبب اللون! لكن المكابرة “الـ١٤ آذرية” لم تنته بعد عيد الجلاء السوري! فها هو فارس سعيد (الذي ربما هو غاضب لعدم دعوته إلى الحفل) مع “أمانة ١٤ آذار السامة” يستعيدون اللغة الإنكشارية في عز التهديدات الإسرائيلية وإدعاءات إسرائيل عن تهريب صواريخ “سكود”، فيساوون بين إسرائيل وإيران عبر القول أن لبنان “تحول ساحة حرب بين الإثنين” ثم يسوقون الإتهامات المعروفة ضد المقاومة.
انها فعلاً إهانة أن تتم التركيبات الإنتخابية وراء الكواليس ويحرم أصحاب ألكفاءات (وهي غير كفاءات أحمد الأسعد) والمواهب من الوصول إلى أي مجلس بلدي محتكر إلى أبد الآبدين للزعماء والعائلات التي توارثته أباً عن جد. ففي لبنان اليوم، لن يفلح أي مثقف طموح للتغيير وتطبيق ما تعلمه في الجامعات لسنوات طويلة من أفكار لتطوير الإدارة المعفنة في أن يصمد أمام حيتان المال والإقطاع. مرة أخرى، مبروك للرابحين في الإنتخابات البلدية وهم الأشخاص الذين فازوا ضد… أنفسهم!
Leave a Reply