صبحي غندور
هاهو العالم يعاني اليوم من تصاعد ظاهرة التطرّف والجماعات العنفـية، ومن أولويّة الأمن فـي المجتمعات، بينما تُهمّش مسألة «العدالة الاجتماعية» والحاجة للعدل بين النّاس، بغضّ النظر عن لونهم وعرقهم ودينهم. فلم تعد قضية حقّ كلّ إنسان فـي لقمة العيش والعمل والسكن والضمانات الصحّية والاجتماعية هي الشغل الشاغل للحياة السياسية فـي دول العالم، بل أصبحت المعارك الانتخابية تتمحور حول قضايا الأمن والإرهاب ومشاكل المهاجرين، وهم هنا «الآخر» ثقافـياً ودينياً!!.
أيضاً، تنشغل بعض الدول بصراعات حول قضايا «الدين والقومية والديمقراطية والعدالة»، فـي ظلّ مشكلة انعدام المفاهيم الصحيحة لهذه القضايا الكبرى، المعنيُّ بها كلّ البشر. فالرسالات السماوية كلّها حضّت على العدل بين الناس، وعلى كرامة الإنسان وعلى رفض الظلم والطغيان والجشع والفساد واستعباد البشر، وعلى إقرار حقّ السائل والمحروم، بينما نجد الآن بعض «رجال الدين والسياسة» يحضّون أتباعهم
على التعصّب والتزمّت وعلى تقسيم المجتمعات بين «نحن» و«هم»، لكن ليس على معايير سياسية واجتماعية، فالغني الفاسد الجشع من الطائفة نفسها هو خيرٌ من الفقير المظلوم من الطائفة الأخرى!!.
إنّ الرسالات السماوية وضعت الكثير من الضوابط للسلوك الإنساني على الأرض، تجاه الآخر والطبيعة عموماً، لكن البشر الذين أكرمهم الله أيضاً بمشيئة الاختيار بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، لا يحسنون دوماً الاختيار، فتتغلّب لديهم الغرائز على القيَم، والمصالح على المبادئ، والأطماع على الأخلاق. فتكون النظرة إلى «الآخر» قائمة على تحقيره أو تسخيره، وليس على المشترَك معه من مفاهيم وقيم دينية أو إنسانية. وكم من حروبٍ وصراعاتٍ دموية حصلت وتحصل لمجرّد وجود الإنسان «الآخر» فـي موقع طائفـي أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي مختلف، دون حتّى أيّة معرفة مباشرة بهذا الإنسان «الآخر»!!
وينطبق الآن على حال الأوطان العربية والإسلامية وصف مرض «ازدواجية الشخصية». ففـي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التديّن» واهتمام الناس بالعبادات الدينية، لكن مع ابتعادٍ كبير لهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.
إنّ المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، بحكم دور ثقافتهم ولغتهم واحتضان أرضهم للمقدّسات الدينية، مدعوون إلى مراجعة هذا الانفصام الحاصل فـي شخصية مجتمعاتهم، وإلى التساؤل عن مدى تطبيق الغايات النبيلة فـيما هو منصوصٌ عليه من قيم وواجبات دينية.
فأين الالتزام بقول الله تعالى: (ولقد كرَّمنا بني آدم) بغضِّ النّظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟ أين العدالة والمساواة والشورى وكرامة الإنسان فـي كثير من المجتمعات العربية والإسلامية؟ وأين الوحدة فـي هذه المجتمعات، وأينَها بين بعضها البعض؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟ وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء فـي مواجهة العنف باسم الدين والجهل به، والعودة إلى ممارسات زمن الجاهلية؟ أين رفض التعصّب والتمييز العرقي والإثني والطائفـي؟ أين المسلمون من جوهر إسلامهم، وأين العرب من كونهم «خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس» بعدما حملت رسالةً تدعو إلى الإيمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرّق بينهم، وتؤكّد على وحدة الإنسانية وعلى قيم العدل والمساواة بين البشر؟!
وفـي مثل هذه الأيام التي تشهد احتفالات عيد ميلاد السيّد المسيح، عليه السلام، يتكرّر استخدام قوله: «المجد لله فـي العُلى وعلى الأرض السلام وفـي الناس المسّرة». وهو قولٌ يجمع بين ما هو حتمي لا خيار شخصياً فـيه، (المجد لله) وبين ما هو واجب مستحقّ على البشر تنفـيذه، أي تحقيق السلام على الأرض. هو قولٌ يُلزم المؤمن بالله ومجده أن يعمل من أجل الخير والسلام على الأرض، تماماً كما هو الأمر فـي العقيدة الإسلامية لجهة التلازم بين الإيمان والعمل الصالح.
لكن هناك أيضاً ما هو سلبيٌّ مشترَك الآن بين «الشرق الإسلامي» و«الغرب المسيحي»، وهو حجم المسافة الشاسعة بين ازدياد عدد الممارسين للشعائر الدينية، وبين قلّة عدد من يطّبقون ما تدعو اليه الرسالات السماوية من قيم وأعمال صالحة ومن واجب نشر المسّرة وروح المحبة وتحقيق السلام بين البشر.
ولعلّ المأساة تظهر الآن جليّةً من خلال حروب وفتن وأعمال قتل وإجرام حدثت أو قد تحدث تحت «شعارات دينية» فـي أكثر من مكان شرقاً وغرباً. بل إنّ كل مُشعِلٍ الآن لحربٍ أو لفِتنة على الأرض يختبئ وراء مقولات تستند إلى ادّعاءات الوصل بالأديان، والأديان منها براء. الكلُّ يتحدّث عن «الإيمان بالله تعالى» بينما على «الأرض الحرب» من الذين يبحثون عن مجدهم الزائف فـيها.
كم هو سهلٌ التحقّق من ممارسة البعض للعبادات أو عدمها، بينما من الصعب حصر ما يقوم به الإنسان من «عمل صالح» أو مدى التزامه فعلاً بالقيم الدينية.
ومع بدء كلّ عام جديد، يتجدّد عند الأفراد والشعوب الأمل بتغييرٍ فـي حياتهم وظروفهم نحو الأفضل، دون إدراك أنّ «الزمن» وحده لا يُغّير الحال، وبأنّ سياسة «حسيبك للزمن» ربّما تنجح عاطفـياً، لكنّها لا تُغيّر عملياً من الواقع شيئا. قد يحدث ربّما العكس، حيث يؤدّي تراكم السلبيات مع مرور الزمن إلى مضاعفة المشاكل والأزمات.
إنّ نهاية عام، وحلول عام جديد، هي مسألة رقمية رمزية لا تغيّر شيئاً من واقع حال الإنسان أو الطبيعة فـي أيّ مكان أو زمان. لكن المعنى المهم فـي هذا التحوّل الزمني الرقمي هو المراجعة المطلوبة لدى الأفراد والجماعات والأوطان لأوضاعهم ولأعمالهم بغاية التقييم والتقويم لها. فهي مناسبة لما يسمّى بـ «وقفة مع النفس» من أجل محاسبتها، وهي التي أسماها القرآن الكريم بـ «النّفس اللوامة».
هنا أهمية حثّ الإرادة الإنسانية على التدخّل لتعديل مسارات تفرضها عادةً سلبيات الأوضاع الخاصّة والظروف العامّة المحيطة. ولا يهمّ هنا إذا كانت هذه المحطَّة الرقمية الزمنية هي فـي روزنامة سنة ميلادية أو هجرية، أو هي مناسبة لأعياد وطنية، فالمهم هو إجراء المراجعة والتقييم والتقويم، ومن ثمّ استخدام الإرادة الإنسانية لتحقيق التغيير المنشود.
فالنّاس هم المسؤولون أولاً وأخيراً عن حصاد كل عام، وستكون كل سنة هي استمرارٌ لما قبلها ما لم تتدخّل الإرادة الإنسانية لوقف التداعيات ولبناء مستقبلٍ أفضل.
Leave a Reply