كان الهنود الحمر يعتقدون أن للأشجار أرواحاً. وكانوا يعتقدون أيضاً أنّ الصراخ يقتل أرواح الكائنات من البشر والحيوانات والنباتات. وكانوا إذا أرادوا قطْع شجرة ما يجتمعون حولها ويبدأون بالصراخ “في وجهها” لعدة ساعات.. اعتقاداً منهم أنّ ذلك سيقتل روحها مما يسهّل عملية افتطاعها واحتطابها..
وبعد ذلك كله، كان للأشجار منزلة عالية في عقائدهم، أشجار “الأكاليبتوس” على نحو خاص، وربما كان ذلك نوعاً من الاعتذار لعائلة الأشجار كلها.. من يدري؟!..
وكان سكان الكهوف، أسلافنا، يعرفون قوة الحيوانات البرية ويهابونها، لذلك عمدوا إلى قتلها -على نحو مجازيّ- على جدران كهوفهم قبل خروجهم للصيد، فكان الصيادون الأوائل يرسمون الحيوانات التي يخططون لاصطيادها، ويرسمون الرماح والسهام وهي تخترق أجسادها في الأماكن القاتلة. وبعدها كانوا يخرجون إلى الصيد أكثر شجاعة وأكثر قناعة أن طرائدهم ليست أكثر من جثث قتلت للتو..
وبعد ذلك كله، كان قاطنو الكهوف يحترمون طرائدهم، ويكنّون لها الود، وأكثر من ذلك أقاموا لها الطقوس والشعائر، وعبدوها. وربما كان ذلك نوعاً من الاعتذار أيضاً.. من يدري؟!..
وحده، قابيل قتل هابيل، وظل يمعن في القتل حتى هذه اللحظة. قابيل.. قلما يعتذر!..
وهكذا.. يذهب الكثيرون منا إلى حروبهم وشؤونهم اليومية، يقاتلون الأعداء والأصدقاء، الأقارب والغرباء، مسلحين بالصراخ ونية إنزال الهزيمة بالخصم و”مسح الأرض به” ولا يختلف الأمر فيما إذا اللقاءات.. سهرات أصدقاء، أو برامج تلفزيونية يشاهدها الملايين..
وبرنامج “الاتجاه المعاكس” الذي تبثه “قناة الجزيرة” مثال نموذجي وشائع، يعكس طبيعة ثقافتنا وآلياتها في الاختلاف والحوار.. حيث الصراخ هو “الماركة المسجلة” والنبرة السائدة والصيغة المائزة طوال مدة البرنامج، هو الذي يفضي في أحيان ليست قليلة إلى الاشتباك بالأيدي والتهم والشتائم..
وما يلفت النظر، في هذا البرنامج، ليس “شكله” الذي يقوم أساساً على “الأزياء التقليدية” وممثلو الأفكار الطاعنة في السن، مدعومين بنسبة الاستبيان التي يقدمها البرنامج في بدايته، حيث نسبة التصويت العليا تأتي لصالح الأفكار الجاهزة..
و”فيصل القاسم”، مقدم البرنامج، ليس هندياً أحمر، بالطبع، مع أنه يشكر جميع الأشجار والمشاهدين الذين قتلهم بتقديمه وجبة الصراخ تلك، كما أنه ليس من “قاطني الكهوف” الذين اعتذروا لضحاياهم طوال قرون عديدة، لكنه واحد من أحفاد قابيل بما لا يدع مجالاً للشك!.. وحفلات القتل التي يقدمها قد لا تكون مأجورة بالفعل، ولكنها بالتأكيد تؤسس لثقافة الصراخ وإلحاق الهزيمة النكراء بالخصم عند جمهور عريض من المشاهدين، ليتحولوا بدورهم إلى قَتَلَة، ويمارسون “القتل” في كل مرة، وفي كل وقت.
“قتل” يمكن أن يدعى، بانزياح ما، قتل.. عن طريق التسلسل!..
Leave a Reply