سأكتب شهادتي ضد زمن ميت نعيش فيه وننتمي اليه معاً بدون اختيار.. إنه الزمن المتصلب كالجلمود مع الأصلاء والمتراخي حد الثمالة مع السفهاء والأدعياء هكذا شاء الزمن والارادة غير المرئية أن يرتقي بالهُزّل الى عنان السماء ويرمي بالشامخين الى حيث القدر الذي يعز علينا أن نراهم به.
ليس هناك اقسى من البشر على البشر فهناك الكثير من المبدعين الذين تحطمت آمانيهم وتفرط عقد تفوقهم بسبب بعض البشر اللاهثين وراء الشهرة والمحطمين كل قيود القانون الطبيعي للتفوق لكي يقفزوا على دماء وأكتاف المساكين والأصلاء. الأصلاء الذين لا أحد يتذكرهم ألا حينما ينتقلوا الى العالم الآخر فتدق لهم كل طبول النفير وتعزف لهم أنواع الألحان، من الذين أهملهم التنميط الاجتماعي السائد عندنا هو: قحطان العطار مطرب عراقي من مواليد العمارة 1950 يعد صوته جذراً من جذور الحزن المتأصل في الجنوب العراقي وألماً يناغم كل ابناء تلك البيئة المقهورة في تراجيديا غير معروف قِدِم تاريخ انبثاقها، صوت يعيدك الى البعد السومري وحضارة العراق القديم ويجلب لك كل غيوم العالم لكي تتقاطر دمعاً رقراقاً من عيون العراقيين التي لم تعرف معنى الهدوء والسكينة، صوتٌ يشبه في صفائه نهرا العراق ونقاوة الهور وأصالة القصب السامق. مخضته والدته لتشعل شمعة النشء الجديد لكنها أَفُلتْ عندما كان قحطان في السنة الثانية والنصف من العمر فتلبّسه الحزن وقولب صوته على طور المآتم التي تنعى الميت فخرج صوته موسيقى متكاملة من الحزن الهاطل في داخل الفرد وتندهش أخته التي أخذت دور الأم حينما تسمعه يردد المرثية الحسينية المعروفة «جابر يا جابر ما دريت بكربلا شصار من شبو النار» صوت أقرب الى الملحمة المصورة التي يتفاعل معها هذا الطفل الصغير الذي يتناغم مع الحزن أكثر من تفاعله مع الفرح.
«قلبي ربات التعب ما شاف أبد راحه له وما مرني طيف الفرح ولكل شخص راحه له»، هكذا صدح العطار بمكنون قلبه المتفجر ألماً وحزناً ويتماً وهكذا انطلق نحو التألق ليخلق من ذلك الحزن إبداعاً لا يماثله إبداع ولا يجاريه تفوق ومن تلك العذابات التي كانت تترشح من أغاني العطار كان الكثير يأنس ويتناغم ويطرب مع هذا الصوت الشادي.
الغريب أن العطار كان يقرأ في المستقبل وكأنه يراه صورة ماثلة أمامه فهو المغرّد في أحدى أغانيه التراثية «من يسأل عليه حتى أسأل عليهم».
فوجدت من الضروري أن أسأل ولو متأخراً عن أحد أعمدة الفن العراقي الذي أهملته جغرافيا أرضه ونسيه تاريخ العراق وكأنه لم يكن ذلك الذي أزفت نفسه النقية الوديعة الاشتراك في حرب أو الخوض في دنس السياسة. لقد نسيه المتسلقون الى السلطة والعابثون بتاريخ الوطن وتغافل عنه رفقاء الدرب، إنها المأساة حينما يترك الفنان والمثقف والعالم يترك لأوجاعه ومرضه وغربته حتى تنال منه، دون إلتفاتة أو توجه جاد لترميم ما حفرته المحن في آخاديد المتفوقين.
انني حينما أكتب عن قحطان العطار أكتب عن محنة فصيل من الناضجين والمتفوقين الذين أنكرتهم فلسفة الوجد للأقوى والطاعة لمن عنده المال والسلطة، أكتب عن العطار لعل هناك من يرتفع به الحس الإنساني والأخلاقي والفني لكي يلتفت اليه فيخرجه من عرينه مكرماً معززاً فهل من مجيب؟.
Leave a Reply