وليد مرمر – لندن
عادت التظاهرات الاحتجاجية إلى الساحات اللبنانية، هذا الأسبوع تزامناً مع وصول سعر صرف الدولار في السوق السوادء إلى عتبة العشرة آلاف ليرة. وبغض النظر عما إذا كانت هذه التظاهرات عفوية أم موجهة بقرار سياسي أم الاثنين معاً، فمما لا شك فيه أن الوضع الاقتصادي في لبنان قد وصل إلى حد ينذر بانفجار اجتماعي شامل، ولربما فوضى عارمة قد يصبح معها الحفاظ على النظام اللبناني ومؤسسات الدولة بشكلها الحالي متعسراً إن لم يكن مستحيلاً.
فبعد مرور ما يقارب من سنة ونصف على انطلاق «الثورة» في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، وفي جردة حساب ربح وخسارة، يبدو واضحاً للعيان أن الخسائر التي نجمت عن تلك «الثورة» كانت فادحة على جميع الصعد ومن غير تسجيل أية نقاط تُحسَب لها مهما كانت ضئيلة. فلقد مهدت «الثورة» لتهريب مليارات الدولارات العائدة للسياسيين والمتمولين الكبار إلى خارج البلاد كما تم سحب مليارات أخرى تم تخزينها في البيوت من قبل بعض المودعين الذين فقدوا ثقتهم بالقطاع المصرفي مما أدى إلى فقدان الليرة ستة أضعاف قيمتها وبذلك أصبح لبنان مصنفاً بين أكثر البلدان فقراً في العالم حسب الدخل الفردي.
وبسبب الانشقاقات والتشرذمات من جهة، واختلاف الولاءات والارتهان للسفارات والأجندات الخارجية من جهة أخرى، فشلت «الثورة» فشلاً ذريعاً في إنجاز أمرين اثنين لم يشهد تاريخ الثورات أي نجاح بدونهما. وهما أولاً تسمية قادة وممثلين عنها، وثانياً توحيد المطالب وإعلانها بوضوح!
ثم ما لبثت أن تخلت الثورة عن مظهرها الحضاري الذي رافقها في أيامها الأولى فعمدت إلى إرهاب المواطنين عبر الإقفال العشوائي للطرقات وحرق الإطارات وتكسير واجهات المحال وحرق بعضها واحتلال المؤسسات العامة (مثل وزارة الخارجية) وغيرها من الأعمال العشوائية المخلة بالأمن والمحفزة للفوضى، بينما تحججت المصارف بالاحتجاجات لتغلق أبوابها بوجه المودعين.
نعم. أطاحت «الثورة» بحكومة سعد الحريري و«الورقة الاقتصادية» التي ااضطر إلى تبنيها على حساب المصارف، وهي كانت مبادرة اقتصادية واعدة ومحتَمَلة النجاح، ولكن تعنّت «الثورجيين» منعهم من قراءتها وأهدر أية فرصة واقعية للحل، فاستقال الحريري، وتمت تسمية حسان دياب لخلافته على رأس حكومة اختصاصيين ما لبثت أن فشلت في تحقيق أي إصلاح يُذكر.
ورضوخاً للضغوط الدولية، أعلن الرئيس دياب عن رغبته في إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وهو أمر شكل هاجساً لدى فريق «8 آذار» فسارع رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى تعيين جلسة نيابية لعرض الحكومة على الثقة ولكن شظايا انفجار المرفأ كانت قد أصابت البناء الحكومي وصدعته وأدت إلى استقالة بعض الوزراء قبل أن يعمد الرئيس دياب إلى إعلان استقالة حكومته.
ورغم أنه كان باستطاعة الأكثرية النيابية المحسوبة على محور الممانعة أن تسمي من تشاء لرئاسة الحكومة المقبلة، إلا أن الحسابات المذهبية وهشاشة الوضع الاجتماعي الداخلي وشعورها أنها «أم الصبي» حتَّما على هذه الأكثرية تسمية شخصية محسوبة على الرئيس الحريري ومقبولة لدى الفرنسيين فتمت تسمية السفير اللبناني في ألمانيا، مصطفى أديب، الذي سرعان ما أعلن عن عجزه في التأليف بسبب العوائق والشروط التي كان سعد الحريري يلزمه بها، فاعتذر ليعود سعد الحريري إلى المشهد رئيساً مكلفاً باعتباره ممثلاً لأكبر تكتل «سني» في البرلمان بـ20 نائباً.
وهكذا، بسحر ساحر اختفت الشعارات وصمتت الأبواق و«انضب» الثورجيون بانتظار أمر العمليات التالي من الغرف السوداء في السفارات المعنية. وهذا من أعجب العجائب. فـ«الثورة» إنما بدأت ضد حكومة سعد الحريري وما يمثله من الفساد الذي لا يختلف عليه اثنان، وإذ بها ترضخ لتسميته بل وتسوّق وتهلل لها عبر تلفزيونات «الثورة» كـ«الجديد» و«أم تي في»!
هناك بعض المغالطات التي يجب التنويه إليها في خضم غسيل الأدمغة الإعلامي الذي يتعرض له الشعب اللبناني بطريقة ممنهجة. فأولاً، إن استعمال كلمة «ثورة» فيه من الجهل والتجهيل ما لا يخفى على عاقل. فالثورة إنما تقوم ضد دكتاتور أو نظام دكتاتوري، وهذان الأمران ليس لهما واقع في لبنان. فالنظام السياسي اللبناني هو نظام ديمقراطي برلماني يلحظ المحاصصات الطائفية. وإنما تهدف الثورات في العالم إلى إقامة أنظمة شبيهة بالنظام اللبناني!
إذن، أين هي القطبة المخفية؟ ولماذا التبس على بعض الناس هذا المفهوم السياسي المعروف؟
إن «الثورة» التي انطلقت في لبنان ليست ثورة على النظام بل هي «ثورة» على «الأكثرية النيابية» التي هي بحوزة فريق الممانعة!
فمن المعروف للقاصي والداني أن الأكثرية النيابية في الأنظمة البرلمانية الديمقراطية في كل العالم هي من تسمي رئيس الحكومة، ثم يتم تمثيلها في الحكومات حسب أحجام البلوكات البرلمانية. وهذا ما حصل في الحكومات السابقة عندما كانت الأكثرية البرلمانية بجانب فريق ما كان يُعرف بـ«14 آذار». ولكن حين أصبحت هذه الأكثرية مع فريق «8 آذار» كان لا بد من مواجهة هذا الواقع من خارج الأطر البرلمانية ذلك أن مواجهته من الداخل ستكون عقيمة. وهكذا كانت «الثورة»! وعلى عكس كل الأعراف في الأنظمة البرلمانية حيث تقوم الأكثرية بالحكم، تم الإلتفاف على هذا العرف عبر اختلاق «بدعة» حكومة المستقلين! فعندما كانت الأكثرية مع «14 آذار» قام هذا الفريق بممارسة الحكم بشكل تام وكامل وأحياناً بشكل غير ميثاقي وغير آبه بعدم وجود فريق أساسي في الحكم، كما حصل إبان حكومة فؤاد السنيورة واستقالة الوزراء الشيعة! أما عندما أصبحت الأكثرية في جعبة فريق «8 آذار» فكان لا بد من اختراع هرطقة دستورية ليس لها سابقة في الأنظمة البرلمانية، وهي حكومة المستقلين! وهكذا يتم سحب البساط من تحت أرجل الأكثرية النيابية التي وصلت إلى السدة البرلمانية عبر انتخابات نزيهة.
وبعد أشهر على التكليف لا يزال الرئيس سعد الحريري عاجزاً عن تأليف حكومة وذلك بسبب «الفيتو» السعودي. وحتى لو أُلفت الحكومة بشروط سعد الحريري فإنها ستعطي فريق «8 آذار»، أربعة وزراء للشيعة وستة لفريق رئيس الجمهورية و«التيار الوطني الحر»، إضافة لوزير واحد لسليمان فرنجية، أي بالمحصلة ستعطي هذا الفريق 11 وزيراً من أصل 18، أي أكثر من النصف زائد واحد، وبالتالي فإن هذا الفريق سيتحكم بالتصويت في مجلس الوزراء. لكن الأمر لن تسمح به السعودية التي ترفض حتى الآن استقبال سعد الحريري، بل قد أوعزت إليه أنها ستقاطع أية حكومة يكون فيها «حزب الله» جزءاً منها.
ولكن بانتظار الإفراج السعودي عن التأليف، لماذا لا تجتمع حكومة تصريف الأعمال الحالية للقيام بمهامها الدستورية، مثل ترشيد الدعم سيما وأن لبنان يواجه أخطاراً محدقة تستدعي ذلك؟
الجواب عند السفيرة الأميركية والقائم بالأعمال السعودي اللذين أبلغا الرئيس دياب بوجود فيتو أميركي–خليجي على انعقاد مجلس الوزراء. ذلك أن اجتماع مجلس الوزراء سيكون بمثابة تعويم للعهد الذي أُخِذَ القرار بأبلسته. ولقد أصبح الأمر جلياً كيف انصاعت أبواق الارتهان في قنوات وصحف الفتنة والتحريض فعمدت إلى التهجم المستمر على رئيس الجمهورية بغية إفشال العهد المتحالف مع خط الممانعة.
وقد يُؤخد على فريق الأكثرية النيابية حرصه المفرط على إرضاء الفريق الآخر وتجنب استفزازه مما يتسبب في أحيان كثيرة بأضرار كان من الممكن تفاديها. ومن هذا القبيل كانت تسمية الرئيس دياب لتأليف الحكومة. ولكن تبين لاحقاً أن الرئيس دياب لم يكن برجل دولة ولم يكن على قدر المسؤوليات الملقاة على عاتقه وهو قد استقال من كل مهامه نزولا عند رغبة الثنائي «شيا–البخاري» ضارباً بعرض الحائط قسمه الوطني لدى التكليف.
وبالعودة إلى تجدد الاحتجاجات في عدد من المناطق، ولدى رصد نبض الشارع، يتبين للمراقب أن هناك اتجاهاً متصاعداً يعمد إلى تحميل سلاح المقاومة وزر كل ما وصل إليه لبنان، وهنا بيت القصيد! وبهذا تكون «قبضة» جورج سوروس قد أحكمت الخناق على رقاب فئة لا بأس بها من «الثورجيين» الذين ينعقون مع كل ناعق وينفذون الأجندات الخارجية عن علم أو دون علم.
هكذا تكون «الثورة» قد آتت أُكلها عبر أبلسة كل من رئيس الجمهورية والمقاومة سواء، وعبر تبرئة أرباب الفساد كأمثال الحريري «السيادي» و«الثائر» سامي أمين الجميل!
ليس هناك لبس حول أهمية الحراك المطلبي والاحتجاجات الشعبية لمقارعة الفساد ومحاسبة الطغمة المسؤولة عنه. ولكن هذا يستدعي التحصن ضد الجهات التي تركب ظهر «الثوار» وتقودهم إلى مآربها. وقد حذر الإمام علي بن أبي طالب من هذا عندما قال عن الفتن: «كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيُركب ولا ضرع فيُحلب»! والفتنة كما يقول علي أيضاً «إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت نبهت». أي أن أمر الفتنة يشتبه على الكثيرين في أولها، ثم لا يلبث أن ينجلي أمرها لدى إدبارها.. ولكن بعد فوات الأوان!
لا شك أن الوضع اللبناني يمر في أعقد مراحله منذ تأسيس لبنان الكبير عام 1920. وغني عن القول إننا أمام انعطافات مصيرية ستحدد هوية ودور الكيان اللبناني لعقود قادمة.
لقد حكم المندوب السامي الفرنسي لبنان 23 عاماً بين 1920 و1943. ثم كانت فترة 32 سنة من الاستقرار وبناء المؤسسات تحت حكم المارونية السياسية حتى عام 1975 عندما اندلعت الحرب الأهلية التي استدعت تدخل دمشق وتكليفها بإدارة الملف اللبناني إلى حين خروج الجيش السوري عام 2005. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف الاشتباكات السياسية الداخلية في لبنان مهددةً أسس البلاد عند كل استحقاق.
فهل سيكون طرْح المؤتمر التأسيسي والكونفدرالية هما الحل؟ أم هل سيتم استجلاب وصاية خارجية كما يدعو البعض جهاراً؟ أم هل سينجح اللبنانيون في تجاوز هذه الأزمة الكيانية العاصفة وسط الانقسامات الداخلية الملتهبة والتجاذبات الإقليمية الحادة؟
Leave a Reply