د. يحيى موسى باشا
رغم مرور ستين عاماً على رؤية والدتي وهي على قيد الحياة، إلا أن ذكرى نزيفها الشديد خلال نقلها إلى المستشفى وهي في المخاض لاتزال حاضرة في ذاكرتي بشكل مؤلم، وما يزيد من صعوبة تحمل خسارتها هو أنه كان بالإمكان –في الحقيقة– تفادي وفاتها بكل سهولة.
لقد ماتت أمي لأنها لم تجد من يجري لها عملية إجهاض!
وحتى بعد كل هذه العقود، فإنني لم أتحدث في العلن عما مرت به والدتي قط، لأنني ما زلت أعاني من صعوبة بالغة في التعامل مع انفطار القلب الناجم عن وفاتها في تلك السنّ المبكرة. ولكنني قررتُ الحديث الآن، لأنني وجدت نفسي مضطراً إلى التحذير من المآسي التي ستصيب عدداً لا يحصى من الناس إذا تم قطع الوصول إلى عمليات الإجهاض في ميشيغن، في الوقت الذي يتكشف فيه اشتداد الهجوم على حقوق الإجهاض في الولايات المتحدة.
لقد وضعت والدتي بكرها وهي في سن السادسة عشرة، وأنجبت تسعة أطفال آخرين خلال العقد التالي، كان بينهما إجهاضان. وإضافة إلى الإنهاك الذي لحق بجسدها، فقد كانت أمي تعاني من أمراض هضمية حادة في المعدة والأمعاء، وهو ما ساهم في زيادة ضعفها وإرهاقها وهزالها.
وبسبب حالتها الصحية المزرية، فقد عرفت والدتي –وكذلك والدي– بأن جسدها لن يتحمل متاعب ولادة أخرى، عندما حبلت، للمرة الأخيرة، وهي في سن الثامنة والثلاثين. ومع أنني كنتُ في السادسة عشرة من عمري، فقد أسرّ لي أبي، بأنه اتخذ قراراً بالاتفاق مع أمي بإنهاء الحمل، لأن حياتها كانت على المحك.
ومع أن الإجهاض محظور في سوريا مهما كانت الظروف، إلا أنه يغدو متاحاً من الناحية القانونية إذا كان الحمل يهدد حياة الأم. لكن والديّ لم يتمكنا من إيجاد طبيب يتولى القيام بعملية الإجهاض، على الرغم من زيارة العديد من الإخصائيين، ما أجبر والدتي على الاحتفاظ بالحمل. ولما جاءها المخاض، حصلت أزمة طبية. لم تنجُ أمي ولا الجنين الذي كانت تحاول ولادته سليماً معافى.
لقد حطّم موتها عائلتنا المترابطة. وقبل أن يكون لدينا وقت للحزن والكمد، فقد اندفع الأقارب والأصدقاء لرعاية الأطفال الثمانية الذين كان أصغرهم يبلغ من العمر عاماً واحداً فقط. لقد شتّتنا وفرّقنا موت والدتنا. وإلى جانب فقدانها المؤلم، خسرنا أريحية العيش مع بعضنا البعض. لقد عشنا جميعاً أوقاتاً عصيبة للغاية. وأما أبي، الذي تخطى الفقر ليصبح صاحب متجر صغير لصناعة الحلويات، فقط واجه صعوبة كبيرة في التأقلم مع فقدان المرأة التي أحبها من أعماق قلبه.
نظراً لأنه لم يقيض لوالدتي أن تخضع لعملية الإجهاض الضرورية لإنقاذ حياتها، فقد كافحنا –جميعاً– لكي نتابع حياتنا من دونها. لقد ترك موتها في قلبي ندبة عميقة لن تشفى أبداً.
وكما قلت آنفاً، لايزال الألم العاطفي لخسارتها ساحقاً لدرجة أنني كنت –على الدوام– أتجنب الحديث عنها وعن موضوع الإجهاض في العلن، لكن ذلك لن يستمر إلى الأبد. فالتسريبات الأخيرة عن مشروع قرار المحكمة العليا في الولايات المتحدة تشير إلى أن إسقاط قضية «رو ضد وايد» بات وشيكاً، وهو ما دفعني إلى رفع الصوت علانية حول حرية الإجهاض. وما أريد أن يعرفه الجميع، بمن فيهم أخوتي وأخواتي في المجتمع الإسلامي، هو أنه علينا –جميعاً– العمل لحماية الوصول إلى عمليات الإجهاض في ولايتنا. نحن نؤمن بحق أي شخص في اختيار الرعاية الصحية الإنجابية التي يقرر هو وأطباؤه أنها الأنسب له، وليس ما يمليه عليه السياسيون.
إن أفضل طريقة لضمان أن نكون نحن، لا السياسيون، أصحاب القرار بشأن صحتنا الإنجابية، هي أن نبادر إلى التسجيل فوراً للمساعدة في إضافة مقترح انتخابي على بطاقة الاقتراع في الانتخابات العامة المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ألا وهو مقترح «الحرية الإنجابية للجميع» Reproductive Freedom For All، والذي من شأنه تعديل دستور ميشيغن للتأكيد بشكل صريح على الحق باتخاذ القرارات المتعلقة بقضايا الإجهاض، وتحديد النسل، والولادة، والرعاية الصحية بعد الإجهاض، ومن دون تدخل السياسيين.
لقد عشتُ في بلد يحظر الإجهاض قانونياً، وشهدت بنفسي، الأحزان والمصاعب التي يمكن أن يسببها ذلك الحظر. وقد هاجرت إلى أميركا للتمتع بالحرية والفرص التي توفرها هذه البلاد. وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، كانت إحدى ملامح تلك الحرية تتبدى من خلال اتخاذ الناس خياراتهم الخاصة فيما يتعلق بالصحة الإنجابية، ذلك النوع من القرارات الذي كان من الممكن أن ينقذ حياة أمي الشابة، لو كان الخيار متاحاً لها في وطني الأم.
وإنني إذ أتحدث الآن كاشفاً عن أحزان قلبي، فإنني لا أفعل ذلك من أجل كسب التعاطف، وإنما من أجل إطلاق تحذير حول ما يمكن أن يواجهه الآخرون.. إذا لم نناضل من أجل حماية حقوقها كلها، لحماية جميع حقوقنا، بما فيها الحرية الإنجابية.
وبعد ما تقدم، يمكنني –الآن– أن أشهد بأن حرية الإجهاض هي مسألة حياة أو موت، بالمعنى الحرفي للكلمة.
Leave a Reply