رغم كل الضجيج الإعلامي والسياسي بشأن احتمالات التدخّل العسكري الأميركي والأوروبي المباشر في سوريا، فما زلت أستبعد حدوث ذلك الآن لاعتباراتٍ عديدة أهمّها أنّ إدارة أوباما ليست بوارد التخلّي عمّا اعتمدته طيلة السنوات الخمس الماضية من إستراتيجية أميركية قامت على رفض التورّط العسكري الأميركي في حروب جديدة في الشرق الأوسط وعلى إسقاط السياسة التي سارت عليها الإدارة السابقة، والتي كان من ضمنها خوض الحروب الإنفرادية دون مرجعية قانونية دولية.
إنّ الأمر لا يتعلق فقط بشخص الرئيس الأميركي وتوجّهاته الخاصة، بل بالمؤسسات الصانعة للقرار الأميركي والتي لا تجد الآن مصلحةً أميركية في التورّط بحروبٍ جديدة في منطقة الشرق الأوسط، ولا في تصعيد التأزّم الحاصل أصلاً مع روسيا والصين وإيران. على العكس من ذلك، فإنّ صانعي القرار في واشنطن يأملون أن تحصل خلال عامٍ كاملٍ من الآن تسوياتٌ كبرى لأزماتٍ دولية راهن على إحداثها الرئيس أوباما منذ دخوله البيت الأبيض مطلع العام 2009، وهي أزماتٌ تشمل الحرب في أفغانستان والنزاع مع إيران والصراع العربي-الإسرائيلي والأزمة مع كوريا الشمالية، وكان فيها أيضاً التورّط العسكري الأميركي في العراق، وأضيفت إليها مؤخّراً الحرب الدموية في سوريا.
فأي عمل عسكري أميركي-أوروبي مباشر ضدّ سوريا، مهما كان محدوداً، سيعني تصادماً مع حلفاء الحكم السوري في المنطقة وعلى المستوى الدولي، وقد تكون أشكال هذا «التصادم» عسكريةً مع البعض، وسياسيةً واقتصادية مع البعض الآخر. وفي الحالتين، ستكون واشنطن هي ودول أوروبية من الخاسرين والمتضرّرين من تداعيات «التصادم»، وبما لا تتحمّله الآن الأوضاع الاقتصادية السيئة على جانبيْ الأطلسي.
أيضاً، فإنّ الولايات المتحدة ومن معها من دول «حلف الناتو» يسعون إلى حدوث انسحاب سريع ومشرّف من أفغانستان، وهذا يحتاج إلى تعاونٍ كبير مع كلٍّ من موسكو وطهران، تماماً كما هي معالجة الأزمة الكورية التي تتطلّب تفاهماتٍ مع الصين وروسيا.
ثمّ هل من «العقلانية» الأميركية أن يحصل الآن التصعيد مع إيران بعد انتخابها للسيد حسن روحاني، الذي أشاد الغرب بانتخابه، ولم تحصل المواجهة معها سابقاً في فترة الرئيس أحمدي نجاد؟! أوليس التصادم العسكري المحتمل مع إيران يعني أيضاً إضافة أزماتٍ اقتصادية دولية بسبب مصادر الطاقة في منطقة الخليج العربي، إضافةً إلى محاذير الأعمال الحربية على الوجود العسكري لدول «الناتو» في المنطقة كلّها؟!
وكيف سيكون مصير «عملية السلام» التي ترعاها واشنطن الآن بين الفلسطينيين والإسرائيليين في حال حدوث هذه التطورات العسكرية التي يكثر الحديث عنها الآن؟
لذلك أعتقد أن لا مصلحة أميركية ولا أوروبية في التورّط العسكري بالحرب الدائرة حالياً في سوريا، وليست هناك مبرّرات دولية تستوجب هذا التحوّل الخطير في السياسة «الأوبامية». وربّما ما نشهده في هذه الأيام من قرعٍ لطبول الحرب عبر التصريحات والاجتماعات والتحرّكات العسكرية هو من أجل دفع كل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية إلى طاولات التفاوض، وإلى البحث عن تسويات تحقّق لواشنطن ما تطمح له من مصالح لم تستطع تحقيقها، في العقد الأول من هذا القرن، بواسطة الحروب.
أيضاً، هناك حسابات محلية أميركية قد تكون خلف بعض الأسباب لهذا التصعيد في اللهجة الأميركية حول سوريا. ففي الأسابيع الماضية اشتدّت الحملة السياسية ضدّ البيت الأبيض من بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، وفي مقدّمتهم السناتور جون ماكين الذي نافس أوباما على الرئاسة في عام 2008، ومن كُتّاب وإعلامين محافظين، بسبب تداعيات الأحداث في سوريا ومصر، حيث اعتبر المشاركون في هذه الحملة أنّ الرئيس أوباما مرتبك في قرارته وأنّه أفقد أميركا مصداقيتها لأنّه لم يفعل ما هو مطلوب من وجهة نظرهم في المسألتين السورية والمصرية، رغم أن التحقيقات الدولية الأولية التي جرت في شهر مايو الماضي أشارت إلى مسؤولية بعض قوى المعارضة السورية عن استخدام الغاز السام في منطقة خان العسل.
* راجع ما نشره موقع «بي بي سي» عن تصريحات كارلا ديل بونتي عضو لجنة التحقيق الأممية المستقلة:
http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2013/05/130506_ivistigator_syrian_rebels_sarin.shtml
ما يحصل الآن في سوريا هو أشبه بتقاطع طرق لمشاريع عديدة في المنطقة بحيث نرى تكاملاً بين بعضها وتناقضاً بين بعضها الآخر، لكن في المحصّلة هي «مشاريع» لها خصوصياتها الإقليمية أو الدولية، ولا أجد أنّ أياًّ منها يراهن على حربٍ إقليمية أو على مدّ نيران الحرب في سوريا إلى جوارها إلاّ «المشروع الإسرائيلي» الذي وجد مصلحةً كبيرة في تداعيات الأزمة السورية وانعكاساتها التقسيمية العربية، على مستوى الحكومات والشعوب. فإسرائيل لا يوافقها توصّل واشنطن وموسكو إلى اتفاقٍ كاملٍ بشأن الأوضاع في سوريا لأنّ ذلك يوقف النزيف الدموي في الجسم السوري، والعربي عموماً، ولأنّه يعني أيضاً تفاهماتٍ أميركية-غربية مع إيران تتجاوز المسألة السورية، ممّا قد يدفع أيضاً بإعادة أولوية الملف الفلسطيني ومسؤولية إسرائيل تجاهه.
أيضاً، فإنّ من غير المصلحة الإسرائيلية أن تتغيّر المعادلات العسكرية والسياسية القائمة الآن على أرض الصراعات في سوريا، أو حدوث أي عمل عسكري أو سياسي يُسرّع في إنهاء الأزمة السورية، لذلك، فإنّ تمكُّن الحكومة السورية مؤخّراً من استعادة سيطرتها على مناطق إستراتيجية مهمّة عنى اخلالاً في ميزان القوى على الأرض وإمكانية حسمه لصالح خصوم إسرائيل في المنطقة.
إنّ إسرائيل تريد مزيداً من التفاعلات السلبية، أمنياً وسياسياً، في سوريا وفي عموم البلاد العربية. فمن مصلحة إسرائيل بقاء الكابوس الدموي السوري جاثماً فوق المشرق العربي، يهدّد وحدة الأوطان والشعوب، وينذر بحروبٍ أهلية في عموم المنطقة. كذلك، تراهن حكومة نتنياهو على تصعيدٍ عسكري ضدّ إيران ليكون ذلك مدخلاً لصراعاتٍ مذهبية محلّية في المنطقة لتغيير خرائطها ولإقامة دويلات طائفية وإثنية، ولتعزيز حاجة أميركا والغرب لإسرائيل بحكم ما سينتج عن الحروب الإقليمية، «الدينية» و«الإثنية»، من تفاعلات لأمدٍ طويل تثبّت مقولة: إسرائيل «الدولة اليهودية» هي الوحيدة التي يجب على واشنطن والغرب الاعتماد عليها!.
هذه أبعاد خارجية مهمّة للصراع المسلّح الدائر الآن في سوريا، فهو إضافةً لكونه صراعاً على السلطة ومستقبل النظام، هو صراع إقليمي-دولي على سوريا، وعلى دورها المستقبلي المنشود عند كلّ طرفٍ داعمٍ أو رافضٍ للنظام الحالي في دمشق.
وهي مراهنة خطيرة جداً في المجتمعات العربية أن تتّم محاولات التغيير السياسي المنشود في الحكومات بواسطة التحرّك الشعبي المسلّح أو في المراهنة على تدخّل عسكري خارجي، لأنّ نتيجتهما حروب أهلية وتفتيتُ كيانات لا إسقاط أنظمة فقط.
Leave a Reply