بحزنها وفرحها وهي تعلق قصيدتها كنياشين تتلذذ بها، جامعة كل منجزها الشعري، عابرة من خلاله كل قارات العالم، لم تكن قصائدها سوى جسر عبور الى الضفاف الأخرى في زمن التيه وفقدان الرجولة، معلقة كل آمالها على رجال خذلوها في زمن الطوفان الذي حاصر كل أبناء شعبها، وها هي تؤثث لبيت من مشاريع وأحلام على ورق أبيض.
ربما كانت حاجتها للكتابة تفوق حاجاتها الجسدية الأخرى، وهي مختلفة عن باقي بنات حواء ليس بارتكابها حماقة النزوع الى مواجهة الضيق والصعاب ومواجهة الذاكرة العاجة بواقع مرير من جراء الدكتاتوريات وما رافق الوجع العراقي، وهي كما تقول نصنع الوليد الجريح ابتسامته الأولى في زمن الحلوكة المستأسدة والمتلبسة بالكلمة الذابلة، تقول في قصيدتها “حكاية منغولية”: على وجه الرًيح خانني الكلام / ياهذا الذي كلما أعطيته ميثاقي / أعطاني الخراب / لم يعد للعمر مكرُه / كي تضيق الارض تحت قدمي.
وانشغالها بمحنة الوطن هو الذي منحها القدرة على تحويل منجزها الابداعي الى لوحة وهي تخلق بقعة من النعيم وسط هذا الموت والدمار المستعر في دواخلها من خلال امتلاكها الكتابة كزاد وملجأ فأختارت هي وأخريات من جيلها بيقين تجربتها في جدوى كتابتها لقصيدة بعيدة كل البعد عن أي ايديولوجيا أو كهنوت، خاصة ونحن نعيش أيام التحزب طمعا ً للمال أو المنصب، فهناك تجارب شاخت بل واندثرت أو ظلت تراوح في مكانها وهي منذ مشوارها الأدبي لم يشخ منجزها او تجربتها فظلت مثل المرايا التي لم تفقد بريقها متنقلة من محفل الى محفل حاصدة كل الجوائز، كما تقول نشاطاتها التي تكللت بالنجاح والصبر والمثابرة في الابداع. ومن قصيدة “أربكني جذُعك” تقول: خزانتي لئيمة / كلما فتحتها/ أربكتني تجاعيدها / ملامحها الرصاص / تلوكُ الحلم تتوعده/ ارمها في ارتفاع العري/ وتشكل بزجاجك / عموداً كي تستند.
كل هذا البوح الشعري المخزون في دواخلها أوصلها الى شواطئ لم تكن أمينة من الغرق الذي دخل اليه العديد من الشعراء في ظل وطن دخلت اليه المجنزرات حتى أصبح هؤلاء الشعراء وكأنهم يعودون من جديد الى سلطة الحاكم، فالنصوص الشعرية عادة تكتب وفق سياقات تجعلك تهرول معها من خلال تقارب همومك مع هموم المكتوب من الشعر، ولأن لغتها الشعرية معتمدة في الكثير من قصائدها على الاختزال وتعميق رموزها، وكذلك مشتغلة على مساحات واضحة في شعرها من المجازات اللغوية فاسحة المجال لأرض واسعة من الكثير من الدلالات مستنبطة كل دلالاتها عبر تراكم قائم على البحث والمتابعة، وهي بالتالي متعاملة مع نصوص شعرية مفتوحة متجاوزة العناصر الثلاثة “الماضي والمضارع والأمر” لتنتج شعرها الخاص بها عبر آليات خاصة وشخصية تتمسك بالعملية الابداعية وفق اشتراطتها التي أفنت عمرها من أجلها، وهي تفضل الانتماء بالكلمة التي سخرتها خدمة للوجع الكامن في جوانياتها التي أشتعلت بفعل وطن تخشب وما عاد فيه روح.
كتبت: “لا يجيء تقول / رسمت نهريها ضفيرتين/ هما من جبال الحداد الألق / ومن وعاء لا يضيق الا للجرح / يزم شفتيه كقبلة من وجع / تركل جثمان بؤسها وتصرخ / طالبة خارطة / ليس فيها موطن من خشب”.
الشاعرة التي تتوقف عند الكثير وكأنها تخزن صورا عدة تحتاجها وهي بالتالي تطبق إحدى مقولات ستانسلافسكي في كتابه “إعداد الممثل” مقولة من كتاب “اعداد الممثل” المخيلة التي يحتاجها الممثل ليجسد لنا شخصية أعطاها له المخرج، فكلماتها موجعة تتجول بنا من لحظة الى لحظة اشد توترا، أنها شاعرة ضائعة بين الأمكنة والأزمنة في ظل حكومات هرعت ووزعت الرعب في صدور الناس، فكيف اذا كان الإنسان شاعرا يمتلك أحاسيسه وتصوراته التي لا تكل ولا تمل، والحياة اليومية التي اشتغلت عليها الشاعرة عبر لغة بسيطة ممتزجة بهم كبير من صراعات متأتية من فعل الحروب والكوارث والأزمات التي مررنا بها، كل هذا الشعر المكتوب وأسئلتها التي تطرحها عبر قصائدها الملامسة للواقع العراقي الذي لم يستكن ولو لحقبة زمنية واحدة، وكأن نهاراتها مثقوبة بفعل حجر تدحرج من عنان السماء الى الأرض الرافدينية ليقف عثرة حجر في طريق ابنائنا الذين تمسكوا بحب الأرض قربا أو بعدا وهم يتجرعون السم.
ويشكل العنف بتمظهراته هاجسا عند روحها التي لم تذق سوى الموت / الخراب / والوضع اليومي وهو واقع يفرض نفسه بضراوة على حياتها التي نسجتها عبر قصائدها المكللة بالحزن والخوف والوجع.
يقول ابو بكر محمد بن يحيى الصولي ويشترط في الشاعر لا أن يشاهد ويرصد فقط بل وعليه أن يعاني أي يتفاعل حقاٌ مع ما يرى، في قصيدتها “أيها المحترق بجرعةِ ماء / إني رنين مملكة جارية / غربية في ثقوب الثلج / ليس لي أم / تنبثق منها رائحة السنوات / والمكان انقطع / كخيط ٍ بمعزلِ السكون.
جدير بالذكر أن بقي أن الشاعرة لديها العديد من الاصدارات الشعرية والروائية والقصصية.
Leave a Reply