قصة أغرب من الخيال: كيف صارت “أهيلة جهاد حيدر” اللبنانية الأميركية “يمامة خراز” من نابلس الفلسطينية؟
ديربورن – خاص “صدى الوطن”
عندما ولدت الطفلة أهيلة حيدر لوالديها جهاد حيدر وصباح بزي حيدر في 26 أيار عام 1982 أمسك بها الطبيب المشرف على الولادة، بعدما قطع حبل السرة ووضعها بين يدي والدها جهاد طالبا منه ملاحظة علامة ولادة على جسدها. بعد ثلاثة أيام من مكوثها مع والدتها في مستشفى “بروفيدانس” في مدينة ساوثفيلد خرجت الطفلة مع الوالدة الى المنزل في مدينة ديربورن. كانت فرحة الوالد خصوصا، بمقدمها لا توصف، فهي البنت الأولى التي تمناها بعد طفلين ذكرين وكان له ما تمنى. وعندما حضر جدها الى المنزل حمل الوالد المبتهج الطفلة وقدمها اليه وأشار الى علامة الولادة على جسدها. حدق الجد الطاعن في السن بتلك العلامة، هز رأسه وأعادها الى والدها قائلا: “هذه الطفلة لن تعيش معكم.. سوف تضيع، ثم يتم العثور عليها من خلال هذه العلامة”!
لم تترك كلمات الجد أي خوف لدى الوالد أو الوالدة، حينها وبقي كلامه في اطار ذلك النوع من التوقعات المصنفة في خانة “التبصير” أو الرجم في الغيب التي يرهص بها أهل القرى والبلدات في المناطق الجبلية والريفية من لبنان.
في 22 نيسان من العام 1984 وكان للطفلة ما يقرب من السنتين من العمر حملها أهلها مع أخويها هشام (5 سنوات) وعزام (4 سنوات) وأختها المولودة حديثا “نُفيْلة” الى لبنان عبر مطار دمشق لأن مطار بيروت كان مغلقا بسبب استعار الحرب الأهلية. كانت العائلة تنوي الاستقرار في مسقط رأس الوالدين في مدينة بنت جبيل الجنوبية.
الخطف
في7 آذار من العام 1985 توجهت العائلة من بنت جبيل الى زيارة شقيق جهاد المقيم في بلدة بعلشميه (قضاء عاليه) في المنطقة الجبلية المطلة على العاصمة اللبنانية. ولم تمض دقائق لا تتجاوز الخمسة عشرة على وصولهم، وكانت الطفلة أهيلة تلهو في حديقة منزل عمها مع أخويها حتى توقف أفراد عصابة وخطفوا الطفلة من الحديقة بلمح البصر تاركين أخويها الطفلين اللذين قاما بابلاغ الوالدة عما حدث. عم الذهول المنزل وأخبر الوالد الموجود بصحبة شقيقه في العاصمة بيروت بالأمر فحضر على عجل وابتدأ عملية بحث مضن عن الطفلة شارك فيها سكان القرية والقرى الجبلية المجاورة للعثور على الطفلة لكن دون جدوى.
مضت الساعات والأيام بطيئة وثقيلة على أفراد العائلة وتوسعت دائرة البحث والاتصالات بالقوى والتنظيمات العاملة في تلك المنطقة التي كانت تغيب عنها كما عن كل المناطق اللبنانية سلطة الدولة بفعل الحرب الأهلية الدائرة آنذاك. لكن آمال الأهل بالعثور على الطفلة كانت تتضاءل يوما بعد يوم. لم ييأس الوالد، فأقدم على استئجار منزل في بلدة بعلشميه وأقام هناك مع عائلته وصمّم على العيش في عين الخطر من أجل كشف هوية الخاطفين الذين كانوا، حسب اعتقاده، يقيمون في المنطقة ويراهم كل يوم. بل إنه حصل على معلومات كما يقول، من مصادرهم “الداخلية” بأن اجتماعا حصل في منزل أحد الخاطفين حضره 14 شخصا معظمهم سوريون باشراف مسؤول أمني في أحد التنظيمات وجرى خلاله التداول في عملية خطف طفلة من المنطقة بهدف بيعها الى جهة مجهولة، ضمن ما يؤكد الواكد بأنه عصابة منظمة تتعامل مع مؤسسة “اجتماعية” تستقبل الأطفال حديثي الولادة ممن فقدوا أهاليهم بسبب الحرب أو لأسباب اخرى.
أمضى جهاد حيدر حوالي 10 سنوات في تلك المنطقة حابسا أنفاسه في محاولة استرداد الطفلة أهيلة، ومعرضا نفسه لأخطار التهديد بالقتل على ايدي أفراد من تلك العصابة المتمتعة بحماية مسؤول تنظيم ميلشيوي كان يرفع شعارات التحرر ومقاتلة اسرائيل!
العودة الى أميركا
في العام 1993، قرر الوالد بعد شعوره بالخطر على نفسه وأفراد عائلته العودة الى الولايات المتحدة حاملا خيبته ويأسه ومخلفا ذكريات قاسية وراءه، وطفلة لم تكن أتمت الثالثة من عمرها عندما أطبقت عليها أيدي مجموعة من الوحوش البشرية التي كانت تسرح في الربوع اللبنانية بلا حسيب ولا رقيب، وانتزعتها من أحضان عائلتها.
كانت حياة الوالدين قد انقلبت الى جحيم من الكآبة والتوتر وغابت السعادة عن منزلهما منذ لحظة اختطاف الطفلة “أهيلة” ولم تعد إليه إلا قبل نحو ثلاثة أشهر وتحديدا في الواحد والعشرين من حزيران الماضي. فما الذي حدث؟
الخبر الذي هبط من السماء
في ذلك اليوم من حزيران الماضي، كانت والدة “أهيلة” صباح بزي حيدر تؤدي الصلاة في منزل العائلة في مدينة ديربورن، عندما رن هاتف زوجها جهاد. كان الطرف المتصل نجله عزام (30 سنة).
ورد اسم أهيلة في الاتصال، لم تشأ الوالدة أن تقطع صلاتها لاستطلاع حقيقة الاتصال. لحظات وأنهت الوالدة صلاتها وتوجهت بلهفة الى زوجها سائلة:
من المتصل؟ وما الأمر؟
لم يشأ الوالد أن يخبرها بحقيقة ما سمعه من نجله كي لا يصدمها ولأنه نفسه لم يكن مصدقا ما سمعته أذناه. اصرت عليه قائلة: حدسي يحدثني أن هنالك خيرا جيدا عن “أهيلة” ورجته أن يخبرها ماذا سمع.
أخبرها زوجها بما سمعه من نجله: لقد اتصلت به فتاة من معارف العائلة وأهل بلدتها واخبرته بعد تردد طال أسابيع، أنها قرأت على موقع الكتروني يدعى “بانوراما” عن فتاة تقول انها من اصل لبناني وتعيش حاليا في مدينة نابلس في الضفة الغربية واكتشفت أن “والديها” الفلسطينيين ليسا حقيقيين بل تبنياها وهي طفلة وتريد أن تعثر على أهلها الحقيقيين، طالبة مساعدة كل من لديه أية معلومة عن عائلة لبنانية فقدت طفلة منذ 25 سنة. لم يبلغ عزام والديه بالأمر فورا، بل قام بالاتصال بادارة الموقع الذي كانت قد أزيلت عنه المعلومات بسبب عمليات التحديث. استجاب المشرف على الموقع وطلب رقم هاتف عزام واعدا بنقله الى الفتاة والطلب اليها التواصل معه.
لم يمض يومان حتى رن هاتف عزام وكان على الجانب الآخر فتاة تحمل اسم “يمامة خراز” (الاسم الأول منحها اياه والداها بالتبني، واسم العائلة اكتسبته من زوجها فهي الآن متزوجة ولها ثلاثة أطفال).
ماذا قالت “يمامة” خلال الاتصال؟
“أنا فتاة من أصل لبناني وقد اكتشفت ذلك بالصدفة عندما كان عمري سبع سنوات من بنت الجيران حيث وضعني “والداي” عندهم وذهبا لزيارة طبيب. سألت تلك الفتاة التي كانت تكبرني قليلا لماذ ليس لدي اخوة وأخوات مثل باقي بنات الحي؟ فكان أن أخبرتني تلك الفتاة، عما تعرفه وتسمعه من أهلها، وما يعرفه كل أقارب الزوجين وأهل الحي من أنني أحضرت اليهما من لبنان وأنا طفلة صغيرة. وأخذت من حينها ألح عليّ “والدي” بالسؤال عمن أكون، وأين أبي وأمي وعائلتي، وكيف أحضرت الى هنا؟
ومع مرور السنوات، وبعد طول الحاح اعترف “ابي” و”امي” بأنهما تبنياني عن طريق “مكتب الشؤون” وطلبا الي أن اتوجه الى ذلك المكتب واسأل المسؤولة عنه المدعوة “غادة الشختير” فلديها الخبر اليقين. توجهت الى المكتب وقابلتها وقدمت لها سؤالي الذي يقض مضجعي منذ اكتشافي أنني ابنة بالتبني لـ”والدي”، فاعترفت لي فورا بأن لي ملفا لدى المكتب وبأنني فعلا من أصل لبناني، وقد أحضرني شخص اليهم (عميل لبناني، يقيم في اسرائيل) وقام شخص اخر بتنسيق عملية التبني بين المكتب والزوجين الفلسطينيين اللذين لا يستطيعان الانجاب.
شعر الوالد جهاد والوالدة صباح وبقية افراد العائلة في ديربورن أن المتحدثة ليست الا من لحمهم ودمهم وانها تلك الطفلة التي اختطفت من حضن العائلة ذات يوم من اذار عام 1985، فعمرها الآن (28 عاما) يتطابق مع التاريخ الذي اختطفت فيه حيث كانت تقترب من الثلاث سنوات (سنتان وعشرة أشهر) وهي لبنانية، فمن تكون اذن، سوى “أهيلة”؟
ولتأكيد الحدس الذي اجتاح الوالد والوالدة سألاها: هل في جسمك شيء ما تتميزين به؟
أجابت فورا: نعم هنالك علامة ولادة (تسمى شهوة باللهجة اللبنانية).
تعرف الوالدة صباح بزي بالتحديد أين كانت تقع تلك العلامة منذ لحظة الولادة. طلبت اليها على الهاتف أن تمرر اصبعها في منطقة من جسدها وأن تتوقف عند نقطة لاتزال تحفظها بالتحديد وقالت لها. هل وصلت اصبعك الى مكان العلامة، فصرخت الفتاة: نعم بالضبط. يقول الوالدان جهاد وصباح أنهما تأكدا منذ تلك اللحظة أن “يمامة خراز” التي تتحدث من نابلس في الضفة الغربية بلكنة فلسطينية ليست الا “طفلتهما” أهيلة جهاد حيدر التي اختطفت قبل 25 عاما من قرية بعلشميه اللبنانية.
التواصل
صار التواصل مع أهيلة (يمامة) وزوجها الفلسطيني بصورة يومية ويكاد يكون على مدار الساعة. ولمزيد من التأكد قام الوالد بإجراء فحص “دي أن أي” وإرساله الى “أهيلة” التي أجرت بدورها فحصا مماثلا (عينة من اللعاب). وبعد 15 يوما صدرت نتيجة فحص “يمامة” وتمت مقارنته مع فحص جهاد حيدر وكان التطابق قائما مئة بالمئة.
ترسخت قناعة جهاد حيدر وزوجته بأنهما عثرا أخيرا على ابنتهما وانتقل الحديث الى ترتيبات اللقاء التي يعمل على اعدادها الوالد ولكنه لا يدخل في الكثير من التفاصيل ويوفر “كلاما كثيرا” الى حين تحقق حلم حياته بلقاء أهيلة.
ثمة تفاصيل أخرى سردها جهاد لـ”صدى الوطن” ولكنه طلب عدم نشرها لأنه لا يريد أن يفسد فرحة اللقاء المنتظر بأية تطورات سلبية ومنعا لتحول حلمه الى كابوس جديد.
دردشة على الشبكة
جهاد حيدر عرض على “صدى الوطن” نموذجا من الدردشة اليومية التي تجري بينه وبين أهيلة عبر الانترنت. يخرج منها المتصفح بانطباع لا يهزه شك أن طرفي الدردشة هما والد وابنته. تتكرر في تلك الدردشة عبارات أهيلة الأثيرة: حبيبي يا بابا.. يا ألبي (قلبي) أنت.. مرات ومرات ويرد جهاد في كل مرة: أنت حياتي وأنت حبي وأنت رجعتلي سعادتي. ويتواعدان على لقاء يأمل جهاد وزوجته ألا يطول استحقاقه.
عينات وجدانية
جهاد حيدر زود “صدى الوطن” بنفثات من وجدانيات يومية كتبتها “أهيلة” هذه بعضها:
“أعتذر للسعادة لأني عشقت الحزن وحملته شطرا من حياتي. وعشت البكاء لأنني أنفس به عن آلامي.. وعشقت قول الآه لأنها تطفئ حرقة أناملي.. وعشقت الجراح لأنها أصبحت قطعة أرقع بها ثغور ثيابي. وعشقت الصمت في لحظة الآلام لأنه يحفظ لي كبريائي.. فعذرا أيتها السعادة لأني أبعدتك عن حياتي”.
“يا عمري يا بابا.. حينما تتوقف روحي عن عشق روحك سيتوقف قلمي عن عشق الحروف وتقبيل الورق”.
“من الجميل أن تزرع وردة في بستان، ولكن من الأجمل أن تضع الحب في قلب انسان”.
“أنت وحدك في عيوني أجمل وأحلى ملاك.. أنت مهما خيروني مستحيل أن أعشق سواك.. اغضب فأنت رائع حقا حين تثور، اغضب فلولا الموج لما تكونت البحور”.
Leave a Reply