كعادته يدخل يوسف قاصدا جده ليلقي عليه السلام عند قدومه، يجلس معه بعض الوقت، من باب الاطمئنان ثم يستأذن منصرفا الى غرفته التي اعتاد أن يقضي بها معظم وقته منذ طفولته. فقد كان يوسف صغيراً عندما فقد أبويه في حادث سيارة لم ينج منه إلا هو بأعجوبة جعلته دون أن يدري منطويا على نفسه لا يخرج من غرفته تلك إلا وقت الحاجة، يتناول فيها الطعام مع جده عبدالحميد بك الذي كان يعمل مأمورا سابقا في البوليس برتبة “حاكمدار” كما كانت تقيم معهما حميدة الشغالة منذ زمن حتى أصبحت واحدة من تلك الأسرة الصغيرة، وهي من قامت على رعايته في وجود جده حتى تخرّج مهندساً زراعياً.
كانوا يقيمون بمنزل فاره في الريف يضمه بستان كبير لم يكن يبعد كثيرا عن القاهرة.
ذات يوم يدخل يوسف على جده صائحاً بنبرة مختلفة كيف حالك اليوم يا جدي؟ حيث أنه قد انتقل للعلاج بأحد المستشفيات القريبة بعد أن وهن جسده بشكل ملحوظ. يحدق فيه جده بنظرة حانية ويحمد الله، ثم ينظر الى حميدة نظرة عابرة ويحدق بيوسف مرة أخرى، فيقترب منه في الوقت الذي حادت فيه حميدة ثم يخرج من سترته قلادة ذهبية بيد مرتشعة وكانت تحتوي على تميمة، فلما مال عليه يوسف طوق بها رقبته وقال “يا يوسف لا تفرط بها أبدا وتفقدها جيدا قبل التصرف بها فقط عند الحاجة الماسة يا بني”، ولم يزد سوى بنظرة حادة مليئة بفحوى سر أراد من حفيده يوسف أن يكتشفه بنفسه مستقبلا.
لم يمض وقت طويل حتى فارق عبدالحميد بك الحياة. غادر بعدها يوسف الى القاهرة للقاء صديقه مراد، الذي كان يعمل مدرسا في كلية الطب البيطري تاركا حميدة بالمنزل الكبير. لقد آن الأوان للبحث عن عمل فضلا عن الانتظار حتى يصيبه الدور في الالتحاق بوظيفة حكومية. أثناء لقائه بصديقه مراد الذي سر به كثيرا، وبعد أن قطعا شوطا من الحديث، دخلت عليهما فتاة على استحياء يبدو عليها أثر النعمة، وتوجهت بسؤال للاستاذ مراد تستفسر فيه عن أمور الخيول بالمزرعة التي تخص عائلتها فأجابها على سؤالها مضيفا: “اطمئني يا آنسة حورية”، فشكرته مبتسمة وانصرفت.
وما إن غابت عن ناظريهما التفت مراد لصديقه يوسف الذي كان يتأملها برفق، وضرب على جبهته ثم قال على الفور “حورية.. نعم حورية لم لا إن كنت سعيد الحظ.. غالبا ما يحتاجك والدها حسن بك كونك مهندسا زراعيا لترعى شؤون مزرعته، فلديهم قصر تحيطه مزرعة واسعة تمتلئ بكل أنواع الخيول والغزلان والمواشي والكثير من أنواع الطيور. كيف لم يخطر ببالي ذلك يا يوسف”؟
في اليوم التالي، يذهب يوسف بصحبة حورية للالتقاء بوالدها الذي رافقه ليعرفه على محتويات المزرعة. قبِل يوسف العرض وأقام بالفعل في مبنى ملازم للمزرعة التي يفصلها عن القصر سور يتوسطه بوابة حديدية بجوارها غرفة للحارس في حال رغبة أحد أفراد أسرة حسن بك في التنزه أو تفقد حالة المزرعة.
مضى اكثر من خمسة أشهر على اقامة يوسف، غير فيها كثيرا من الاوضاع التي انعكست ايجابا على كل المشاريع. كثيرا ما كان يلتقي بالانسة حورية التي أبدت اعجابها به وقد انعكس ذلك على تصرفاتها تجاهه فظهر ذلك في تعدد زياراتها اليه. بدوره كان المهندس يوسف يخفي شيئا من اعجابه الكامن بها ولم يصرح تحسبا للفهم الخاطئ كونه يعمل لدى أسرتها وحياؤه الذي تميز به وأدبه الجم الذي زاد من تعلقها به.
بعد مضي عام تخرجت حورية طبيبة بيطرية وأصبحت تحظى بوقت أطول تتردد فيه بشكل ملحوظ على المزرعة مما أثار حفيظة أبويها فقررا الاستغناء عن خدمات يوسف تحسبا لمزيد من تعلق الصبية به، وبحجة أن الأمر لم يعد ضروريا كسابق عهده، كونها أصبحت طبيبة بيطرية وما لديها من العمال يكفي لرعاية المزرعة.
حزنت حورية عندما فوجئت بهذا القرار ولم تستطع فعل أي شيء حياله لأنه بدا نهائيا، فاضطرت لقبوله دون الحاح قد يظهر من خلاله ما كانت تبطنه. وبعد أن أقنعها يوسف بأنه لن يتخلى عنها وسوف يكون دائم الاتصال بها حالما يستقر به الحال، اتخذ بعدها لنفسه مستقرا في منطقة شعبية تحسبا لكثرة النفقات. زارته حورية بعد ذلك وتعددت اللقاءات التي دامت لشهرين. ذات يوم مرض يوسف مرضا شديدا نقلته، على إثره، حورية الى اقرب مستشفى حيث آل وضعه لإجراء عملية جراحية تم فيها استئصال حصوات في الكلى، وكان لا بد من دفع نفقات المستشفى.
حاولت حورية جاهدة مساعدته في ذلك، الا أن يوسف رفض رفضا قاطعا وما لبث أن خلع التميمة وأعطاها لها للتصرف فيها دون أن يتأمل كلام جده جيدا ويتفحصها، وعندما ذهبت حورية لبيعها في احد محلات الحلي قلّبها التاجر بنظرة ثم هزها وسأل عما بداخلها فاستيقنت الأمر من سؤاله واستردتها على الفور ومن ثم عملت على فتحها بعد جهد فوجدت بداخلها ورقة صغيرة بداخلها مفتاح فلما قرأتها توجهت على الفور الى بلدته ولم تتردد للحظة.
ذهبت الى بيت يوسف ودخلت رأسا على حميدة التي ساعدتها في إخراج خزنة صغيرة كانت مدفونة بمكان ما بالحديقة، وبعد أن فتحتها بالمفتاح الذي كان موجودا داخل إطار التميمة فوجدت بداخلها بعض المجوهرات والنقود وصك ملكية، تماماً كما أشار المكتوب الذي كان برفقة المفتاح داخل التميمة. أخذت حورية ما يكفي لحساب المستشفى وأعطت حميدة بعض المال ثم أغلقت الخزنة ودفنتها في نفس المكان بمساعدتها وأوصتها بكتمان الأمر حتى يعود يوسف معافى.
في طريق العودة للمستشفى حيث يرقد يوسف خطر على بال حورية أن تقرأ محتويات الصك، وكانت المفاجأة فاذا به ملكية للقصر والمزرعة التي تقطن بهما عائلتها فانتابها الذهول لكنها تكتمت على الأمر وتوجهت على الفور الى المستشفى، حيث دفعت حساب علاج يوسف وأقلّته بصحبتها الى القصر. فسألها لماذا تتوجه به الى هناك بعد أن بادر بداية بالرفض إلا أنه استجاب لاحقاً كونه شعر بأن هناك سرا تخفيه.
انتظر يوسف في الردهة الخارجية وما ان دخلت حورية على أبويها أخرجت الصك من حقيبتها وهي تبكي، دون أن تغلق الباب ورددت: “أبهذا الآن توافقون على زواجي من يوسف الذي رفضتم يوما أن تقبلوه ضيفا في ملكه”. فنظر والداها الى الصك الذي بحوزتها متعجبين سائلين “من أين أتيت به؟”. ثم قال والدها “لقد تأخرنا عن سداد الايجار لعبدالحميد بك نظرا لسفر أخيك حمدي الى ألمانيا، فهو من كان على اتصال به نيابة عني، وقتما يحل الايجار في كل عام”، فأجابت باكية من فرحتها “هناك من يبتّ بهذا الأمر الآن”، واستطردت “أدخل يا يوسف”، فلما دخل عليهم بخطى واهنة وهو مذهول لما سمع، قالت “إنه يوسف أحمد عبدالحميد، حفيد عبدالحميد بك يا بابا”. عندها لم تستطع والدتها أن تظل على ما هي عليه، هكذا على قدميها، فهبطت على الأريكة مسترخية تتأمل ما يحصل، في الوقت الذي وجد فيه يوسف نفسه، وحورية، مجتمعين في حضن واحد تضمهما ذراعي أبيها وفي عينيه دموع الاسى والفرح بما كانت تخبئه الأقدار.
Leave a Reply