المشهد الأول: المنظر الخلفي
دخان سجائري أزرق متصاعد بأفعوانية سابحا نحو سقف الغرفة الرطب. نظارات سوداء حالكة تعكس رأس ميدوزا ذات الضفائر الجائعة، لكنها كانت صلعاء هذه المرة وذات ملامح رجولية، فقد ابتلعت جدائلها لتحولها الى جدليات حجرية ساكنة في فكر القائد والشيخ والأمير بجغرافيا أشبه بتلك القابعة بين ذينك البحرين والخلفِ الصالح ممتشقا سيفه الجهادي.
مصباح يتأرجح وقد تدلى أيضا من نفس ذلك السقف الرطب. ونور خافت لا يكاد يبين أيا من تفاصيل المشهد إلا جانبا من ذينك الغرابين، وكان أحدهما مايزال يحفر (ليس واضحا فيما إذا كان قبرا أو لا). باب موصد كالقبر. شباك واسع جدا بقدر كفين مجتمعتين من أكف ذلك الصمت الأنثوي المتأوه الصائم الى بعض من كسيرات مائعة في كيس بلاستيكي معلق يحوي سائلا مائيا وقد كتب عليه بأحرف لاتينية وبعض الأرقام المبهمة وأنبوب شرياني دقيق غرست نهايته في لحمها.
سوط متلوٍ قد ألهب عيني تلك الآهة الانثوية الملقاة في إحدى زوايا الغرفة الجائعة حتى باتت تنزف دمعا، ولكنه كان سوطا عضليا حيا أشبه بلسان أفعى يتلولب ليرجع بعدها مستقراً في تجويف مسخ قد سُمي مجازاً فماً، ولكنه في الواقع كان الباب الحقيقي لتلك الغرفة الكهفية الظلماء.
(وجه يظهر أو يختفي أمام الجمهور ولكن ذلك ليس أكيداً)
كان لذلك الوجه العربي الأسمر شاربين ينتفضان ثورة كلما طرقت مسامعه شاردة أو واردة تدغدغ بعضا من أرداف بنات حيه المكتنزة، حتى كاد ذلك الجينز الاسلامي ان يتفتق حسرة بدعوى انه لا يحمل وزر حمل اردافهن امام الله يوم الحساب.
كان متعودا على فتل شاربيه حينما يقف صباحا أمام المرآة وقد اصطبغ محياه الرجولي بابتسامة رضى فهو قد تعب من احتساء النفط العربي الأصيل كل تلك السنوات حتى أصبحا شاربين يقف عليهما صقران، أو حتى حمامتان بيضاوان، وعند الضرورة غرابان، أحدهما كان لا يزال يحفر مشغولا بسوءة أخيه.
كان باستطاعة ذلك الفحل العربي أن يشغل محرك سيارته التي لم يأت موديلها بعد بضربة واحدة من خنصره بعد أن يحني رأسه بحركة هوليوودية بعقاله العربي الداجي كليلة كحلاء محيياً بنات حيه وهن خارجات متمايلات صباحا على اصوات المحمول الهزاز (الى للضرورة).
آه كم كان فارسا متمكنا وقد ألف كل ذلك حتى بدا رجلا غيورا غير هياب. كان يكمل طريقه ذاهبا الى عمله طربا على صوت فيروز المنطلق من راديو سيارته التي لم يأت موديلها بعد (شايف البحر شو كبير.. شايف السما شو…..) أو ربما استمع الى السلام الجمهوري حتى قبل إقفال البث أو فتح المحلات المسروقة. لم تكن أبدا تلك النشوة الفيروزية لتنسيه أن يقرأ بضعا من الآيات القرآنية او حتى حمل مصحف صغير في جيبه للتسهيل والحفظ، فهو مؤمن يكاد إيمانه أن يتفجر عند الضرورة… وحتى عند باعة السمك والموظفين وأطفال الروضة إذا تطلب الامر.
وحينما كان يدخل في دائرة نفسه الغامضة اللون كانت الجزم العسكرية تتدحرج أمامه باستعراض عسكري مهيب، وحتى النعال المصنوعة حصرا في الصين باستطاعتها ان تتدحرج ايضا، وربما جزمة او اثنتين صنعتا في ايطاليا، وأخذتا قهرا لتباعا في “هارودز”، فتلك محلات راقية حتى لو كان أصحابها مصريين اقحاحا أو غيرهم، فالديمقراطية شملت كل تفاصيل الحياة هناك وربما انتقلت إلينا مجزّمة لامعة.
المشهد الأخير
باب الغرفة يفتح ليدخل صاحبنا ولا ينسى ان يدخل معه شاربيه وفوقهما الكثير. جسد ناعم لا زالت كتلة الارض الاسمنتية الباردة، أو حتى الساخنة، تحتضنه منذ ربيعين. جسد أعرفه.. أظنه من حمل قلبي في أحشائه يوما. بل في في حضنه. بل في حضني.
آه.. أتساءل بزفيري لم هو مسجى لازال؟. يتقدم ذلك الشهم العربي الاصيل ليعري تلك الحقيقة التي لا زالت ذراعها منذ أمد ترتشف بعضا من حليب وعسل عبر ذلك الانبوب الشرياني المغروز. تتقدم ميدوزا لتلثم جسدي العاري بسجائر ذات ماركات عالمية، وأبدا ليست بالرخيصة، حتى اذا صرخت.. صرخت.. صرخنا.. أمطر ذلك السقف الرطب نثارا من قطرات دافئة من لؤلؤ واستبرق قد تبخرت من عيني تلك الحقيقة دموعا حبلى. حتى اذا ألهب بعدها وجهها وجسدها سياطا من لحم وجلد فاخرين انتشى وبان طرف ثغره عن ابتسامة عربية غيورة جذلاء وقد الصق يده على أيسر صدره تحية للدين والتاريخ والوطن الصحراوي ذي البحرين وبعض من قطعان الإبل.
لتُغلق الستارة بعدها ويصفق الجمهور بحرارة في أرجاء الكرة الانسانية المعمورة.
Leave a Reply