الشحاذات
يوم واحد لا تخرج فيه الشحاذات الثلاث. هو ذلك اليوم الذي يوزع فيه صاحب البيت الكبير الأموال على الناس، وفي باقي الأيام يتواجدن في كل مكان ويأخذن الأموال من أهل الخير، وبعد العشاء يغصن في الظلام ولا يُدرى أين يذهبن.
عقد مجموعة من شباب القرية السارقين العزم على أخذ ما جمعت إحداهن في يومها. وأخذوا يمشون خلفها خفية، حتى مرت ببيوت خالية من السكان. وهناك اعتدلت الشحاذة المتمارضة وأخذت تمشي بسرعة كأي فتاة في ريعان الشباب. تعجبوا منها وجدَوا في المشي كي لا تختفي، يدفعهم فضولهم للتعرف عليها أكثر، لا نيتهم السابقة بسرقة المال.
أحاطوا بها. حاولت الهرب. أمسكوها. أعطتهم المال. قالوا:
– لا نريد المال..
– ماذا تريدون؟
– نريد معرفتك..
حاولت التملص. أصروا عليها. وأخيراً اعترفت. عندها عُرف سر مقولة صاحب البيت عندما كان يوزع الطعام على الناس: منكم وإليكم.
وبعد تلك الحادثة لم تخرج بنات صاحب ذلك البيت يشحذن كما في السابق، وشد والدهن الرحيل إلى قرية أخرى.
الرسالة الأولى
ملأتُ المكان بمسودات الرسالة الأولى. أكتب وأعيـد، وأحذف وأختصر، ثم جئت بالورقة التي خصصت لكتابة النسخة النهائية، وقفت أمامها صامتاً محذراً نفسي من الخطأ أو أي خدش يشوه الرسالة..
شرعت أكتبها ببطء شديد، وحالما انتهيت من قرائتها بتأنٍ وبعد تشديدي على بعض الحروف والنقاط، رددت الرسالة بهدوء حتى أصبحت صغيرة جداً، وضعتها في ظرف رسائل صغير هو الآخر. أعطيتها لذلك الرسول البطيء، وجلست أنتظر الرد البعيد.
بعد إنتظار طويل، جاءني الرسول المتكاسل بالرد، التقطت الرسالة ووضعتها في جيبي خوفاً من أن يراها أحد، وعندما خلوت بنفسي أخرجتها وأخذت أنظر إليها بعينين تكادان تقفزان من محجريهما. وروح تسبح في الفضاء، وأنا لست مصدقاً بأن هذه رسالة من المحبوبة. أصابعي المرتعشة لاتكاد تقوى على الإمساك بها، ورغم لهفتي على قراءتها، إلا أني فتحت المظروف بهدوء وروية، خوفاً من أن أجرح الرسالة العزيزة.
داخل المظروف وجدت وريقة صغيرة، وما أن فتحتها حتى التهمها بصري بشراهة مفرطة، ولم ألمح منها إلا كلمة: أحبك. تنفست الصعداء. ثم كررت عليها أقرؤوها المرة تلو المرة، حتى بدأت نفسي تهدأ وأنفاسي تتلاحق، بعدما ألممت بمحتواها.
وضعتها في جيبي، وكدت أُفضح وسط الناس من كثرة وضعي يدي في جيبي لأتحسسها وأطمئن عليها..
كلما خلوت بنفسي، أقرؤوها، وأتحسس فيها ملمس أصابعٌ ناعمةً قد لامستها. ألثمها بعمق، واستنشقها باحثاً عن بقايا رائحة المحبوبة، مغمضاً عيني وسارحاً بخيالي المتسائل: ياترى كيف كان شعورها عندما كتبتها.. وهل كتبتها في الصباح أم في المساء، كتبتها جالسة أم متكئة أم ماذا..؟
كتبت لها رسالة ثانية بعد ثلاث أو أربع مسودات، وأوشكت أن أفعل بها ما فعلته بالرسالة الأولى إلا قليلا، أعطيتها للرسول الذي عاد بالرد بعد فترة طويلة، قرأتها بنفس الطريقة مع أنها أقل لهفة بعض الشيء، وفي المرة الثالثة لم تتعدّ المسودة مرة واحدة وعندما جاءني الرد غير البطيء لم تتجاوز قراءتي لها مرة أو مرتين، ولفتت انتباهي بعض الأخطاء فيها..
أصبحت أكتب لها على نفس ورقة الرسالة مباشرة، وأعطيها للرسول الذي لا أكاد ألتقط أنفاسي حتى يأتيني بالرد.. أكتفي برمقها بنظرة واحدة لأعرف فحواها، وأكثر ما يشغلني فيها هي الأخطاء الإملائية ورداءة الخط.
/
أما الآن فقد بردت الرسائل بيننا مع التكرار والزمن..
Leave a Reply