بداية، “قصة موت معلن” هي إحدى الأعمال الروائية للكولومبي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز، وفيها يقوم صاحب “مئة عام من العزلة” بسرد قصة مقتل الشاب سانتياغو نصّار، ذي الأصول اللبنانية، على أيدي الأخوين التوأمين فيكاريو، موثقاً بذلك لأحداث قصة حقيقية جرت أحداثها في الريف الكولومبي، عام 1951.
وبعيداً عن مدرسة “الواقعية السحرية” التي أوجدها ورسخّها ماركيز، كمدرسة روائية، في أعمال حازت شهرة عالمية، وترجمت إلى مختلف لغات العالم، إلا أن هذه الرواية “قصة موت معلن” تكاد تكون من أكثر أعمال الأديب الكولومبي إيلاماً وهجاءً وانتقاداً لمجمتع ذي قيم سلبية، وسلوكيات حيادية وانهزامية، تعكس كل ذلك الجبن الجماعي، والعجز عن الفعالية، فضلاً عن غياب الشجاعة الأدبية، وبرودة الدم. الأمر.. الذي يقود إلى إحالة كتل من البشر، إلى مجرد شهود، بدافع الفضول وليس بدافع المعرفة.
ويمكن أن يكون هذا الكلام معروفاً، لمن تيسّر لهم قراءة الرواية، وعرفوا ألم الطعنات التي تلقاها “نصار” في بطنه، فاندلق كرشه على مرأى الجميع، ومن دون أن يحاول أحد مساعدته. لقد كان الكل على علم بخطة القتل التي أعدها الأخوان فيكاريو، لكن أحداً من الناس لم يحرك ساكناً لإيقاف الجريمة، واكتفوا طوال النهار بانتظار حدوثها.. وتسقط أخبارها، من وراء الشبابيك.
“أنا ما دخلني”!..
“أنا ما دخلني”.. عبارة يرددها معظم الناس لتظهير حياديتهم السلبية وانسحابهم من المشاركة حتى على مستوى إبداء الرأي. فضلاً عن أنها (العبارة) جزء من قاموس اجتماعي يومي وثقافي مستقر. عبارة تعيش وتترعرع جنباً إلى جنب مع عبارات وأمثولات أخرى كثيرة: “بدي سلتي بدون عنب”، “فخار يكسّر بعضه”، “بدك عنب وإلا بدك قتل الناطور؟!” (والجواب دائماً: بدي عنب)، “أمشي الحيط الحيط.. وأقول يا رب الستر”.
أمثال وحكم وأقوال وأبيات شعر وحكايا.. تمجّد وتشجّع على الانكفاء والتقوقع والانسحاب، والاكتفاء بالثرثرة والشكوى. والمؤلم.. أنه يتم تصنيعها في كل مرة كحقائق وتجارب ومبادئ مضمونة النتائج، تعكس وعياً جماعياً بالعجز وقلة الحيلة، وقد تصل في بعض الأحيان إلى الحضيض الأخلاقي، كما في المثل الشائع: “اللي بيتجوز أمي.. أنادي له يا عمي”. أيّ انصياع وتردّ هذا؟!
أنا ما دخلني..
والحقيقة أنه لا مبرر لمثل تلك السلوكيات الشائعة والمحبطة سوى الخوف، والاحتياط (غير الضروري)، لأنه “لشو وجع الراس”، وغالباً ما يتم تمويه مثل تلك المشاعر والمواقف، بحجج الترفع والراحة وضمان السلامة والمصلحة الشخصية ومشاغل الحياة. ولكن المفارقة.. أن الكثيرين لا يكفّون على سرد فلسفاتهم في الحياة ونجاحاتهم وبطولاتهم الشخصية!
وفقط من أجل تأكيد الفكرة الأخيرة، لا بد أنكم لا تستغربون ذلك الكم الهائل من “الشهود” على العصر، الذين يملأون شاشات فضائياتنا بالتقوّل والتبجح والبطولات الملفقة ونفش الريش. بطولات مفبركة وشهادات جريئة في غير وقتها وإدانات لأنظمة بادت وأشخاص رحلوا، فيما التاريخ يقول أنهم كانوا مجرد موظفين صغاراً، وأنهم كانوا يكسبون رزقهم اليومي بعرق انصياعهم وممالأتهم وخنوعهم..
أنا ما دخلني: ثقافةُ خوف.. ثقافتنا!
وأخيراً.. ليس من الضرورة أن تكون الجريمة هي فعل القتل فقط. إساءة الأمانة في إدارة مؤسسة غير ربحية.. هي جريمة، السرقة، النصب، الاحتيال، سرقة صوت، أو الادعاء بتمثيله، أو المتاجرة به.. هذه كلها جرائم. والجرائم حولنا كثيرة، وكلنا يعرفها وشاهد عليها، ولا أحد يجرؤ على رفع صوته في وجوه التّجار والنصابين والمحتالين. كلنا شهود..ولكننا لا نجرؤ حتى على الإدلاء بالشهادة، وبهذا المعنى فجميعنا مشتركون بالجريمة.
لا يخفى عليكم شيء، تعرفون الكثير، أما أنا فما دخلني..
Leave a Reply