بقلم: كمال العبدلي
تتمّة رسالة الشاعر الأديب عبدالزهرة زكي إلى صديقه الناقد الدكتور محمّد صابر عبيد، حول التأكيد على وحدة الأدباء وتعاضدهم رغم حيرة الكثيرين منهم إزاء تقلّبات السياسة التي طالت أبنيتهم الفكريّة والعاطفيّة الجماليّة:
«وقد نختلف أو نتفق على طبيعة ما حدث في 2003 لكننا سنلتقي، جميعاً، في أهمية الإحتفاظ بالحرية المكتسبة، هذه الحرية التي استثمرها الجميع، من مناصري العملية السياسية ومن مناوئيها، واستخدموها، بفضيلةٍ أو رذيلةٍ، كل من موقعه ومن زاويته الثقافية والسياسية التي ينطلق منها.. لكن امتياز المثقفين العراقيين أنهم أمسكوا بهذه الحرية، بشعورٍ عالٍ بالمسؤولية، مترفعين على الصغائر والكبائر التي انحرف باتجاهها منحرفون كُثر من فئات اجتماعية أخرى، غير فئة المثقفين..لقد بقي المثقفون العراقيون بمنأى عن التشرذمات والانقسامات التي أريد للمجتمع أن ينقسم ويتناحر على أساسها. وكان من فضائل العمل الثقافي أنه عمل على أن يكون مجالاً حيوياً يلتقي فيه المثقفون بلا عقد الإنتماءات والمرجعيات، ومع احترامٍ شديد لحق الناس في أديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم وأساليب تفكيرهم.
بمثل هذا السلوك بقي العمل الثقافي العراقي في هذه السنوات محطَّ احترام وتقدير الناس الذين ظلوا ينظرون إلى المثقف، بوصفه مُلكاً للمجتمع ككل، وليس لطائفة أو قومية أو اتجاه، مع احتفاظ جميع المثقفين، أو من يشاء منهم، بشرف انتسابهم وانتمائهم لأديان ومذاهب وقوميات وأحزاب.ووحده العقل الإقصائي سيرى في ذلك الإنتساب مثلبةً أو داعياً للتكاره والتباغض. وبمثل ذلك السلوك الثقافي بقي جميع المختلفين، في ساحة الانقسام العراقي، يرون في النشاط الثقافي، الذي بقي متواصلا في أحلك سنوات العراق، الصورةَ التي باتوا يفتقدون إليها في ميادين أخرى.
لقد كنتَ، أيها الصديق العزيز، حاضراً وفاعلاً، في الكثير من هذا النشاط.. وكنتَ تكرّس الصورةَ ذاتها التي حرصنا على نصاعتها، صورة المثقف الوطني الذي يلتفت إلى الوراء بغضب ويتطلع إلى المستقبل بثقة، متحرراً من قيود الماضي ومن أعباء الراهن.. وكان هذا مما يزيد الثقةَ في أن الثقافةَ هي المعقل الذي لم تستطع أن تخترقه آفات وأراجيف الذين يريدون بهذا المجتمع سوءاً.
من هنا كان موضع اندهاشي واستغرابي، وأنا أطالع بيان اتحادنا الذي وضعنا، بأسفٍ أمام سابقةٍ خطيرة لا أتمنى لأحد من المثقفين أن يكون البادئ بها، ليتحمل وزرها ووزر العاملين بها، فكيف إذا كان هذا المثقف هو أنتَ.. الناقد المتحرر المنحاز إلى قيم التحديث والتجديد، والمعارض لأي تنميط أو تجميد أو سكون، والمثقف المنفتح على حركة الأفكار والحياة، وبهذا كنتَ من المسهمين في تطوير وتحديث العمل النقدي الأدبي العراقي خلال أكثر من عقدين. وكان لعملك في جامعة تكريت، في التسعينيات، أن ينعش هذه الجامعة بنفحة انفتاح وتجديد، ويجعل من الدراسات الأدبية فيها مجالاً مفاجئاً لتوقعات الوسط الثقافي.
كان مجرد استذكار هذا يدعو إلى مزيد من الحيرة التي أردتُ تبديدَها بالإتصال بك، مباشرةً، وحين اتصلتَ أنت، أدركتُ أنك قد جُرجرتَ إلى خطأ لا تستحق أن تكون فيه. كان انكسار صوتك ونبرة الأسى، التي لم تستطع أن تُخفيها بمداراتك، يعبران لي عن صدقك الذي لا يريد أن يلوذ من الخطأ بالكذب والنكران.. وكنتُ أقدِّر حجم الألم وحجم المعاناة، وقد وُضِعتَ في ذلك الخطأ.
هل يحقّ لجامعة أن تسأل عن طائفة شاعر كبير، وعن انتمائه السياسي السابق، وعن علاقته بالحياة، لتسمح بعد ذلك لطلبتها أن يدرسوه ويبحثوا في شعره أو يمتنعوا عن ذلك؟ وهل سيكون لزاماً على أستاذ في الجامعة أن يجيب على أسئلة تافهة كهذه ليتقرر في ضوء إجاباته تسجيل رسالة جامعية أو عدم جواز تسجيلها؟
لن يُنقِص هذا المنع، وأنت الأعرف بذلك، من قيمة حسب الشاعر أو الإنسان.. ولن يضيع له حقاً، قد يصادفه اليومَ أو غداً في الكثير من الجامعات التي تحترم نفسها وتحترم علميتها.. ولكن ذلك المنع يفتِّح أعيننا على حجم المأساة التي وضعت رهنها جامعات عراقية، ليس جامعة تكريت وحدها بالضرورة، تتخلى، تحت ضغط الجهل والعصاب الفكري، عن ابسط اشتراطات الدرس الأكاديمي، في مراحله الدنيا وليس في دراساته العليا.إننا أمام وضع تحتاج فيه الجامعات، ما دام الحال هكذا، ليس إلى إعادة تأهيل علمي إلى كثير من إداراتها وهيئاتها التدريسية حسب، وإنما أيضاً إلى إعادة تأهيل آخر، إنساني وأخلاقي، يحترم المهنة ويحترم حقوق الآخرين.
في حدود معرفتي بك.. فانك، في ظروف أخرى وفي جامعة أخرى، كنت لتمتنع عن الإجابة على الأسئلة غير الأكاديمية الموجهة إليك، وكنت ستحتج عليها، وستدافع عن حق الطالبة في الإختيار، وعن حق الشاعر في أن لا يُمنَع، وعن حق الجامعة في أن تُحتَرم مهنيتها وعلميتها وأن لا تُزَج بأهواء الطائفيات والعصبيات السياسية.
سأقول بما أعرفه، لما تقتضيه أمانة التاريخ،انك لم تكن لتفتقد إلى الجرأة التي وضعتك، مرةً، ووضعتني فيها معك، أمام مساءلة أمنية جراء مقال لك نشرته في ثقافية صحيفة الجمهورية التي كنت أحررها.. ولم يكن لكلينا أن نخلص من تبعات التحقيق إلا بعد جهد ومواربة وتدخل مسؤولين ثقافيين شرفاء وقتها.وسأقول إن انحيازك لقيم التجديد والتحديث قد وضعك في موضع الريبة والتشكيك وحتى الإقصاء المستمر عن النشاط الثقافي حينذاك، حين كان لمثل هذه القيم أن تعبر عن نزوع مناوئ لنزوع آخر، حكومي استهلاكي خدمي للسلعة الأدبية والثقافية. لقد كان الإنحياز إلى احترام الأدب الفن وجديتهما وجدتهما الهوية الثقافية المعارضة الوحيدة الممكنة، وكنت دائم الإشهار لهذه الهوية.
هذه الجرأة التي استذكرها لك الآن تتطلب، يا أخي وصديقي، موقفاً آخر يتصحح فيه كل شيء، وتستعيد معه الجامعة علميتها، وتستعيد الطالبة حريتها، والشاعر حقه، والوسط الثقافي تقاليده العابرة للاختلافات والمحترمة لحق الجميع في التدين والتمذهب والتفكير والانتماء لجماعة أو حزب أو طائفة أو قومية، ما دام هذا لا يتعارض ولا يتصادم مع حقوق الآخرين وحرياتهم.. يتطلب منك موقفا تُقنع الجامعةَ فيه بتسجيل الرسالة، وأن يجري الكفُّ عن مثل هذه المعايير المدمرة للجامعات والمجتمع.
لقد حرصنا، خلال هذه السنوات، على أن نطالب بتشريعات، ونعترض على تشريعات، وأن نعمل من أجل تحرير الثقافة، ومن أجل صيانة وتعزيز حرية وكرامة الدرس الأكاديمي من أية محاولة تنحرف بها السلطات الحكومية، سواء الآن أو في المستقبل، باستقلالية التعليم وتسخيره لمصالح إيديولوجية طالما عانيناها وعانتها المؤسسات الأكاديمية.. وسيكون من غير المعقول، بعد هذا، أن نسمح، مثقفين ومجتمعاً، بأن تهيمن على الجامعات ومراكز التعليم جماعات أو عصابات أو أحزاب ضيِّقة الأفق، ولا تستطيع أن ترى العالم في الخارج من أفقها الضيق وفكرها الظلامي المأزوم.
يجب أن نقول: لا.. حين تكون الـ«لا» مسؤولية شرف وحرية وكرامة.
لا أريد أن أطالبك بما لا يسمح به ظرفك فأكون ظالما.. ولكن ما زال ثمة متسع، كما أحسب، لهذه الـ«لا» التي نحتاجها منك ويحتاجها سلوكك وتاريخك الثقافيان. إنها فرصتنا ومسؤوليتنا إزاء المصير الثقافي لأبنائنا ولبلدنا طالما اخترنا أن نعمل في الثقافة، مكتفين بها قدراً، استغنينا معه عن الأقدار والخيارات الأخرى التي تُرِكت لآخرين.
يؤسفني، أخي العزيز، أن أجعل هذه الرسالة الشخصية مفتوحة..لكن اعتزازي بك وحرصي عليك، وواجبي في الدفاع عنك، مثقفاً حراً كما عرفته، وعن حرية التفكير والتعليم والنأي بهما عن العارض والزائل، يجعل من موضوع الرسالة شأناً عاماً، حتى لا تكون الأخطاء سنّةً.. وحتى نكرس العمل من أجل مساعدة بعضنا على التحرر من الأخطاء، وليس بالإنتقام والتشهير والتسقيط..
كلّ ابن آدم خطّاء.. وخيرنا من يعين المخطئ على خطأه، فينتصر له من خلال القول بالصواب والعمل عليه.
محبتي لك.. وثقتي بك.»
Leave a Reply