بقلم: كمال العبدلي
لمّا كان الأديبُ يمثِّلُ عصّارةَ فكرِ البيئة التي ينشأ ويترعرعُ بين أحضانِها، مكاناً، أو أناساً أفراداً ومجتمعاتٍ، فإنّ مايميّزُهُ عبر استخدامهِ لأداة الكلمة، هو الإكتشاف الإستثنائيّ للقيمِ الجماليّة المبثوثة فيها، سواءً من حيث إيحاءاتِها الكامنة، ووجودِها كظاهرة، أو من حيث منطلقِها نحو الديمومة والإستمرار والإنتشار، لتكونَ في النتيجة سمةً تميّز تلك البيئة، كما لو كانت مثل نقطة ضوء تتجمّع حولها الأخريات فتتكاثف لتبدو للعيان هالةُ تستدعي الإنتباهَ ومن ثمّ لتقترن بالإعجاب المصاحب لحالة الدهشة والمفاجأة، وهي في مجملِها، بحيث تغدو نتاجَ خلقٍ وإبداع، تصبُّ في المحصّلة التي يُطلَق عليها حضارة شعب.
في عالمِنا العربي، وخصوصاً في الحالة العراقيّة، بحسب تجربتنا، لم تنفصم شخصيّةُ الأديب عن شخصيّة مجتمعِه، وإذا كان يحدث مثل ذلك، فهو من باب ثنائيّة الشخصيّة، وليس ازدواجيّتِها، فالعديد من الشعراء كانوا يحيون حياةَ التشرّد والصعلكة في ممارسة وجودهم اليومي، بحيث ربّما يدعو مظهرهم أمام من لايعرفُهم للإزدراء، لكنّهم إذا اعتلوا المنابرَ الأدبيّةَ تجدهم وكأنّهم ملوكٌ من غير تتويج، وهي ظاهرة انسحبت على مجتمعات أخرى، بهذه الدرجة أو تلك، كما بهذا الشكل أو بآخر، ففي الغرب، وبالتحديد في فرنسا كان الشاعر «سان جون بيرس» الحاصل على نوبل، دبلوماسيّاً كبيراً وفي قمّة هرم الخارجيّة الفرنسيّة، حين يذهب إلى عملِهِ في الوزارة، يرتدي البدلةَ الرسميّة اللامعة تتراقص عليها علاماتُ الكيّ، تتدلّى من رقبته ربطةُ العنق الزاهية، أو الوردة ذات الجناحَيْن، تتضوّع من حولِهِ الأمكنةُ والممرّاتُ التي تمرّ عليها خطواتُه، بأريجِ العطور المنبعثِ من ثيابِه، لكنّه حين ينتهي من عملِهِ، يخلع كلَّ تلك الإناقة الباذخة، ويعاف مظاهرَ الأبّهة، فيستبدلُها بقميص الهاواي وبنطلون الجينز القصير ونعال الجلد المشبّك كما لو كان بوهيميّاً، مصطحباً كلبَهُ ويمشي على الرصيف بين الناس، مخترقاً زرافاتِهم وآحادَهم بين الأسواق أو حدائق المنتزَهات.
إبتُلِيَ الأديبُ العراقيُّ بأخطر المحن التي مرّت بحياته، تلك التي أرادت إحاطتَه بشرك التدجين السياسيّ، وخاصّةً خلال مرحلة الدكتاتوريّة التي دشّنت عهدَها صبيحةَ السابع عشر من تمّوز عام 1968 ولغاية انقراضِها ربيع العام 2003، وبشتّى الطرق والأساليب، أغلبها الترغيب وأقلّها الترهيب، ممّا تعرّضَ خلالَها الكثير من الأدباء إلى عمليّة جلدِ الذات، ولم يكن أبلغ تأشيراَ لذلك من قولِ الشاعر مظفّر النوّاب «قتلتْنا الرِدّة.. قتلَتْنا أنّ الواحدَ منّا يحملُ في الداخلِ ضِدّه»، ولم يسلم من وقعِ هذه الكارثة سوى من اختار العزلةَ فتوارى خلف غيوم الهموم وجدران الوحدة الرهيبة، وكذلك الأدباء الذين هاجروا البلاد هائمين على وجوههم في شتّى أقطارِ الأرض، ممّا حدا ببعضِهم إلى القول «تحتَ كلِّ نجمةٍ أديبٌ عراقيٌّ مهاجر».
حتّى إذا انجلتْ غيومُ الدكتاتوريّة عن أرضِهِم، وتنسّموا كبقيّة أبناء جلدتهم عبيرَ الحرّيّة، فاجأتهم الأممُ المتّحدة بقرارها المريب الذي أثار سخطَهم وبدّدَ فرحةَ الخلاص من نير ذلك العهد الدموّي الدكتاتوريّ، القرار الذي لخّصته بكلّ وقاحة ودون مراعاةٍ لأدنى حقٍّ من حقوق الشعوب حيث أقرّت بأنّ «العراق تحت الإحتلال» على خلاف ما شرّعه الكونغرس الأميركي قبل بدء حرب العام 2003، إذ كان بعنوان «قانون تحرير العراق»، ولولا الإتّفاقيّة الأمنيّة مع الولايات المتّحدة، لكان قد اتّخذَ الأمرُ مجرىً كارثيّاً آخر، ممّا خفّفَ من وطأة عارِ الإحتلال، برحيل الجند الأميركان وجند بقيّة دولِ التحالف، إذ ليس هناك من شعب يرتضي الإحتلال مهما بلغ من درجات التخلّف، كيف بمبتكر الحضارة البشرية؟ وبعد أن انتشرت بين أبناء الشعب تلك الظاهرة الحضاريّة التي أسّست لثقافة الإنتخابات وظهور البرلمان، ارتطم الأدباء بالجدار الصخريّ ذي النتوءات الجارحة، جدار المحاصصة الطائفيّة المقيت، وكم حاولت تلك المحاصصة أن تجرّ الأديبَ إلى مستنقعِها لكنّه ظلّ متمسِّكاً وبإصرار، على وحدة الشعب بكلّ قوميّاته وإثنيّاته وطوائفه وأديانه ومذاهبه وأقلّيّاته، فلم يدنّس قلمَهُ بوحل التفرقة، فكان النموذجَ الأمثل لوحدة الشعب، وهنا أنقل نصّ رسالة الشاعر الأديب عبدالزهرة زكي إلى الناقد الدكتور محمد صابر عبيد، والتي نشرها في جريدة «المدى» وفي مجلّة اتّحاد الأدباء:
عبد الزهرة زكي: يجب أن نقولَ «لا».. حين تكون الـ «لا» مسـؤولـيــةَ شــرف وحـريــةٍ وكرامــة
الأخ والصديق الناقد، د. محمد صابر عبيد
تحياتي،
لم أستطع أن أصدق فحوى بيان الإتحاد العام للأدباء والكتاب الذي دان فيه إقدام جامعة تكريت على منع تسجيل رسالة لواحدة من طالباتها، كانت تريد فيها دراسة التجربة الإيقاعية في شعر الشاعر العراقي حسن الشيخ جعفر، حيث جرى تبرير المنع بأسباب طائفية أولاً وبسياسية فكرية ثانيا وبـ«أخلاقية» ثالثاً، وكانت المفاجأة الصاعقة تكمن في أن هذه التسبيبات عزيت لك ولسعيك من أجل منع الطالبة من البحث والدراسة في تجربة الشاعر، كما جاء في البيان.
لم استطع تصديق ما قرأت، وكنت مندهشاً، مثلما اندهش الزملاء في الإتحاد، من أن مثقفاًً وأكاديمياً مثلك يكون هو وراء هذا الحدث السابقة في الحياة الثقافية والأكاديمية العراقية بعد 2003. وأقول بعد 2003، وأنا أعني ما أقول، فأنا وأنت والجميع نعرف أن جامعاتنا، قبل هذا التاريخ، كانت محكومة بسياسة تعليمية وفكرية صارمة، لا تستغرب معها حدوث الكثير من الحالات التي جرى فيها الإحتكام إلى الحيثيات السياسية والعقائدية والطائفية والقومية وحتى الشخصية قبل الإحتكام إلى القيمة العلمية، وكانت وظيفة الخبير «العلمي» آنذاك، كما تعرف، تنصرف، بشكل أساس، إلى ممارسة دور رقابي يتابع ويؤشر معه «الخروقات» التي «يتورط» بها الطلبة الباحثون في مجالات «مريبة ومزعجة» للسلطات حينها. وكانت ثمة مساحات فكرية وتاريخية، مما له صلة بالعقائد، محظورةً على البحث العلمي،على وفق الرؤى الضيقة لفكر السلطة.. ونتذكر أن الكثير من زملائنا الأدباء والباحثين كانوا ضحايا لتلك السياسة، أو كاد بعضهم أن يكون ضحية لولا تدخل زملاء آخرين قريبين من السلطة الثقافية وسعيهم لحماية زملائهم وتمرير بحوثهم المزعجة بتعديلات مطلوبة أو بدونها.
لقد كان هذا، وكثير آخر سواه، هو مما ألفناه، مرغمين، في تلك السنوات.. لكن بعد 2003 (بكل ملابساتها) توفرت لنا وللجامعات العراقية فرصة التخلص من تابوات كثيرة، أرهقت حركة الإنتاج والتأليف الفكري والأدبي في البلد، وأسهمت في تشويه الحياة الثقافية، ولهذا كان إصرار ونشاط النخب الثقافية الأكثر حيوية متركزاً على الإحتفاظ بقيمة هذه اللحظة وتنميتها وتطويرها لصالح الحريات وحقوق الإعتقاد والتفكير والتعبير عن الرأي، والعمل على منع العودة إلى التعسف السياسي والفكري والديني، مهما كانت أشكاله ودوافعه.ولم نكن بالمغامرين، حين اعترضنا علناً، مؤخراً، على نية حجب مواقع الكترونية عن شبكة الإنترنيت ذات هوية تكفيرية وظلامية وتحرض على القتل، ولم يكن هذا الإعتراض ولاءً لتلك المواقع أو انحيازاً لسخفها الفكري، ولكن خشيةً من البدء بالتفكير بالمنع وتوفير المسوغات لكل ما قد تفكر السلطات بمنعه وحجبه وإقصائه.
Leave a Reply