بقلم: كمال العبدلي
على الرغم من تعدّد وتنوّع الإنحدارات التي يَقدم من بيئاتها الأديب، إلّا أنّه في نهاية الرِحلة يحلُّ مقيماً في رحابِ أقرانِهِ من مبدعي ومنتجي الأدب، تلك الرحاب التي لامبنىً أو مظهراً لأيّ شكلٍ أو جوهرٍ من التشتّتِ والفُرقة في أرجائها الظليلة الواسعة، لأنّ مايجمعهم هو أهمّ وأخطر بما لا يمكن تصوّره ممّا يفرّقهم، ويكفي هنا للإستلال بمرجعيّة الضمير الإنسانيّ الخالص، والتحرّر من النزعة الشرّيرة التي يخلّفها التحيّز أو التعصّب أو التحزّب، ذلك أن مناطق اشتغالهم الفكريّة والإبداعيّة يستقطبها الوجود الإنسانيُّ المطلَق مهما اختلفت وتضادّت وتنوّعت أشكالُ الطبيعة المحيطةِ بهم، بالإضافة إلى العامل الأخطر، المتمثّل بالكينونة الإنسانيّة، المطلَقة هي الأخرى، إذ تستمدّ نقاءَها وصفاءَها من براءةِ الطفولةِ إزاءَ ويلات وأهوالِ الحرب.
لقد أدركَ الأديبُ منذ القِدم مكانتَه، وعرف موطئَ قدمِهِ في مسيرةِ حياته الإبداعيّة داخلَ النصّ، فوجد أنّ وجودَه إفضاءٌ انسيابيّ نحو تجميلِ الحياة وإشاعة المحبّة والسلام بين أبناء جنسِهِ من البشر، أي وفق مصطلحات التصوير الفوتوغرافيّ، يتطابقانِ كانطباق الصورة «النيغاتيف» على قرينتها «البوزيتيف»، ولكي يكون بمستطاعِهِ القبض على هذه الجوهرة العظيمة، وديمومة بقائها تحت تصرّفِهِ، وجدَ أنّ عليه النأيَ عن إقحام نفسِهِ بأيّ قيدٍ حزبيٍّ أو أيديولوجيّ يُفقِدُهُ المعنى الواسع والكامن وراء نعمةِ الحريّة التي منحها إيّاهُ الخالقُ العظيم، الحرّيّة التي تقف عند حدود احترام الآخَرين، والمنضبطة بتحصين النفس من المنزلَقات البوهيميّة، والضامنة لعدم إيقاع الأذى بالشريكِ الآدميّ في الحياة.
تأتي هذه الأهمّيّة المستمَدّة من استقلاليّةِ الأديب، للتمييز بينه وبين السياسي الخاضع سواءً لمقتَضَيات مصلحتِهِ أو مصلحة الجهة التي ينتمي إليها، فتبرز على مسرحِ الأحداث، تبعاً لذلك، العلاقةُ الجدليّة بين الأدب والسياسة لأجل تشذيب مسار الحياة الإنسانيّة من خلال تبادل وتلاقح الآراء، بحيث يكون الحكَمُ الفصل هو الضميرُ الجمعيّ الداعي لمواصلة الحياة وصولاً إلى الحلم المشترك في سيادة العدالة بجميع فصولها ومساربِها إلى أدقّ نهايات تفرّعاتها، وليس غريباً أو عصِيّاً أن نشهد اتّساع مرجعيّة الأديب إلى مساحات لا تُحَدّ من مشاعر البشريّة، فيما لا تتعدّى مساحة السياسي حدودَ جهةِ انتمائه، على أنّ هذا لا يخضع لحسابات المفاضَلَة أو المباراة، كما يتبادر لأوّلِ وهلة إلى الذهن الساذج، بل يندرج تحت مسمّى الحصائل الناتجة عن وقائعيّةِ وتراتُبيّةِ الأحداث من منظورٍ تأريخيّ، إذ كم من حركة وتيّار وأحزاب وتجمّعات أرشفها المؤرِّخون، قد زالت وانقرضت، فيما بقي نتاجُ الأديب متداوَلاً يستأثر بنهمنا واهتمامنا وفضولنا ورغبتنا العارمة في استعادة قراءته، والنهل من ينابيعه الصافية، كإقبالِ الظامئ في كلّ مرّة على نهرٍ يسيحُ من الشلّالات، أو إقبال العروسِ على أحمُرِ الشِفاهِ أمامَ المِرآة، أو لهفة الشابّ العاشق لملاقاة أحضانِ حبيبته.
عقبَ منتصَف التسعينات، حين تصاعدت حالةُ التجلّي إلى درجةِ الإنتشاء، لدى أحد أصدقائي الشعراء الراحلين، ممّن تورّطوا بمديح طاغية ذلك الزمان، رأيتُهُ بأمِّ عينيّ وسمعتُهُ بملءِ أذنيّ، واقفاً وعلى رؤوسِ الأشهاد مثل فارسٍ فاتح، يصرّح باتّساع فمِهِ ودقّة حركة ضمّ شفتَيه وفصاحة لسانهِ ومن عمقِ حنجرته، في إجابةٍ عن سؤالِ وجّههُ له أحدُ أصدقائنا الأدباء الآخَرين: «ماذا تعمل هذه الأيّام؟»، تلك الإجابة الداعية إلى الشفقة، والبليغة المُعبِّرة عن بؤسِ المآل، والتي لا يمكن نسيانُها على الإطلاق: «إنّني أبيعُ القصائد».
هذه الإجابة ماكان لها أن تنطلقَ، لو لا مصداقيّة حالة الإنتشاء التي مدّت يدَها لتساعده وتحفّزَهُ على رميِ القناع الذي يتستّر وجهُهُ وراءه، والظهور تحت إشعاعِ الحقيقة الباهر، ولو كان الجوُّ متنجِّساً بعينٍ ولو واحدة من عيونِ السلطة، لكان قد توارى صاحبي إلى حتفٍ مصنوع قبل الحتفِ المقدور.
إنّ الشعورَ بالذنب أو بالخطأ سيّان في كفّةِ الميزان، ولا عبرةَ أو خيراً يُرتجى منهما دون الإعتراف أو التصريح، هذه الفضيلة العظيمة لم تتأتَّ للسياسي أن يتفيّأ بنعيمِها، إذ دائماً الآخَرون لديه على خطأ وهو المتفرّد بخزائن الصحيح، وإذا قُدِّرَ له أن يصل إلى حافّتِها نجدُهُ يلجأ وبغباء إلى الإنتحار، مثلما فعلَ صاحبُ بدعةِ النازيّة العنصريّة.
Leave a Reply