بقلم كمال العبدلي
بين فترةٍ وأخرى، تُفاجأ الأوساطُ الأدبيّة العربيّة، بلطمة القرارات المتعلِّقة بمنع وتوزيع ونشر مطبوعٍ أدبيٍّ ما، أو حجب الموافَقة على إجازة طبع مخطوطة أدبيّة يتقدّم بها مبدِعٌ عربيٌّ ما –في جنس القصّة والرواية بخاصّة– لتُفصحَ ليس عن العقليّة الساذجة للقائمين على هذا الأمر، بل عن العقليّة التسلّطيّة القمعيّة التي تقضمُ حقَّيْن معاً، حقَّ الأديب في نشرِ نتاجه، وحقَّ القاريء في تلقّي ذلك النتاج، بالإضافة إلى إغتيال حرّيّة الفكر التي تقدّسها وتضمنها أغلبُ دساتير العالَم المتقدِّم كواحدةٍ من الضمانات الأكيدة لتقدّم الشعوب، وقد مرّتَ علينا في سياقِ التأريخ المُحبِط لتلك السلطات، تجربةُ الشاعر العراقي الكبير حسين مردان، حيث لم تكتفِ بمنع نشر ديوانه (قصائد عارية) بل أوغلتْ في لؤمِها فأحالتهُ إلى المحاكمة، ولتوضيح جوانب مهمّة وعديدة من تفاصيلِ الأمر، أدرجُ هنا نصَّ ما كتَبَ في ذلك، ألأديب ثائر القريشي وأرشَفَه، والذي نشرَهُ في أحد أعداد جريدة (الصباح) البغداديّة الصادرة عام 2010:
في اليوم السادس والعشرين من شهر حزيران 1950 عقدت محكمة جزاء بغداد الاولى جلستها الأولى لمحاكمة الشاعر حسين مردان عن ديوان «قصائد عارية» وقد جاء عدد كبير من الادباء الشباب إلى قاعة المحكمة لمتابعة سير المحاكمة. من ثم توجه الحاكم إلى المتهم ببعض الاسئلة وتولى الشاعر الرد عليها
وكان بينها سؤال عن سر تسمية الشاعر لديوانه بـ«قصائد عارية» وقد رد على ذلك بقوله: إن الشاعر يحب أن يكون صريحاً في التعبير عما في نفسه، ولم أتوخ في قصائدي الا اظهار الحقائق عارية ليتبينها الناس.
ثم توجه الحاكم بسؤال عما إذا كان في الأدب العربي القديم أكثر صراحة في مثل هذا الموضوع فعدّد له الشاعر المتهم بعض الأمثلة.. ثم أُجّلت المحاكمة.
وفي الجلسة الثانية استمعت المحكمة إلى دفاع وكيل الشاعر المحامي صفاء الاورفلي.
– الدفاع: سعادة حاكم جزاء بغداد المحترم، سيق موكلي حسين مردان إلى محكمتكم الموقرة وفق المادة 204 ق.ع.ب وذلك لنشره قصائد نشرت تحت اسم «قصائد عارية» إن فعل موكلي لا ينطبق عليه نص المادة 204 وذلك لأن ما نشره موكلي ليس القصد منه نشر أمور مخلة بالآداب بين الناس. إن موكلي رجل أديب ولكل أديب طابعه الخاص، فهناك من يريد نشر الفضيلة بذكر ما هية الفضيلة، وهناك من يرى أن نشر الفضيلة قد يكون بالتطرق إلى الرذيلة، وأمامنا قصة «مدام بو فاري» لمؤلفها الكاتب الفرنسي الكبير «جوستاف فلوبير» فقد أثيرت هذه القضية أمام القضاء، وإدعى الإدعاء العام إنها قصة قصد مؤلفها عرض الرذيلة، إلا أن القضاء العادل لم يأخذ بهذا الرأي.
وبعد ذلك قرر الحاكم أن تلتجئ المحكمة إلى لجنة أدبية من كبار أدباء العراق لغرض دراسة الديوان وتقديم تقرير عنه قبل صدور القرار. وقد جاء في تقرير كبار أدباء العراق أن الأدب المكشوف فن كبقية الفنون، ولو لم يكن كذلك لما وجدناه يدرس في كليات الآداب للذكور والإناث على السواء. ولما وجدنا كتب الأدب العربي التي تدرس في مدارسنا تتطرق اليه وتذكر نماذج منه، ولما وجدنا في مكتبات العالم وفي مكتبتنا العامة دواوين شعراء الأدب المكشوف. كما قلنا إن الأدب المكشوف فن كما أن فن النحت فن وفن التصوير فن، وإننا لنجد في أسواق العراق وأسواق العالم والبيوتات الراقية في العراق وغير العراق من اتجاه العالم تماثيل عارية وصوراً لأجسام عارية نحتها أو رسمها نحاتون عالميون. فهل كان في كل ما ذكرت مخالفة للآداب العامة؟!.
وفي اليوم التاسع من شهر تموز عام 1950 عقدت المحكمة جلستها الثالثة، وبعد تلاوة قرار اللجنة الأدبية قررت المحكمة الإفراج عن الشاعر وديوانه.
القرار: لعدم توفر أركان الجريمة ضد المتهم السيد حسين مردان قررت المحكمة الإفراج عنه وفق المادة «155» من قانون أصول المحاكمات وأفهم علناً.
حاكم جزاء بغداد الأولى (26- 7- 1950)
بعد أن أفرج عن الشاعر حسين مردان جاء في البرقية التي نشرت في جريدة «الهاتف» شيء جديد في الشعر العربي، وقد ظلت الصحف تكتب عن حياة الشاعر وديوانه الفصول الطوال لمدة سنة كاملة حتى ان جريدة «العالم العربي» تقدمت برجاء خاص إلى الأدباء والنقاد أن يكفوا عن الكتابة بشأن الشاعر وديوانه. وقد قام الأديب المحامي «طالب السامرائي» بتأليف كتاب عن محاكمة الشاعر وديوانه.
أما الشعر نفسه فلم يكن يهتم بكل ذلك فقد كان يبتسم لشاتميه بالطريقة نفسها التي كان يبتسم فيها للمعجبين به.
وفي سنة 1950 طبع قصيدته «اللحن الأسود» في كراس خاص فصادرته الحكومة، وقدمت الشاعر إلى المحكمة وأفرج عنه أيضاً، وفي سنة 1951 أصدر كتابه «صور مرعبة» وهو نوع من النثر أطلق عليه المؤلف فيما بعد اسم «النثر المركز» حاول أن يصور فيه حياة الحشاشين ومتعاطي المخدرات، وفي نهاية 1951 طبع قصيدته «رجل الضباب» في كرّاس خاص. وفي سنة 1952 أصدر رسالته «عزيزتي فلانة» وفي نهاية عام 1952 اعتقل ثم قدم للمجلس العرفي العسكري فحكم بكفالة على أن لا ينشر كتاباً لمدة سنة واحدة، ولما لم يقدم الكفالة المطلوبة قضى سنة في السجن، وبعد خروجه من السجن عاد إلى الاشتغال في الصحافة ثم أصدر كتاب «الربيع والجوع» ثم إنصرف إلى التأليف.
ويبقى سؤال يطرح نفسه: من كان وراء محاكمة حسين مردان؟
Leave a Reply