بقلم: كمال العبدلي
لم يقتصر منعُ المطبوع أو ردُّ طلب نشرِه، على مرحلةٍ محدَّدَةٍ في تأريخ العراق السياسي الحديث والمعاصر، حيث امتدّ كأنّما انهالَ وساح باسوداده منذ البدء، من مصدرٍ أو كهفٍ واحد دون توقّف، وكذلك لم يقتصر على جنسٍ أدبيٍّ بعينه، وإنّما تعدّى إلى بقيّة الأجناس الأدبيّة الأخرى كالقصّةِ التي راح ضحيّة مصادرتها الأديبُ القاص عبدالستار ناصر فقتلتْ من عمرِهِ سنةً بأكملِها قضّاها وراء جدرانِ السجن الإنفرادي المغلَق، وكذلك الرواية، كما سنشهد تفاصيلها بين قوسَي الحجب، تباعاً، لنخلص إلى أنّها في مجموعِها وفي مجمل المراحل، لابدّ وأن تشكّلَ ظاهرةً تعني حجب حرّيّة الفكر، والتي لابدّ هي الأخرى أيضاً تحدِّد ملامحَ السلطة القائمة على الأمر، باقترافها جريمةَ المنع والمصادَرة، بدلاً من صيانة تلك الحرّيّة المقدّسة التي انتبهت إلى أهمّيتها دساتيرُ العالَم المتقدِّم فأوْلتها الصيانةَ والضمانة بالنصّ العريض، لدورِها الإيجابيِّ المؤثِّر في تقدّم حياة الشعوب وإثراء حضاراتِها الإنسانيّة.
وقبل الخوض في تفاصيل حجب الإجازة على نشرِ الروايةِ المعنيّة، تستدعينا ضرورةُ التمهيد إلى تسليط بعض الأضواء على كينونتها، وما يرتبط بسلسلة طروحاتها، ومن جملتها أنّ النَصَّ الأدبيَّ لا يستعيرُ موقفاً من الواقع ويحّوله إلى خيال، بل يرى (ستيفن غرنيبلات) أنَّ العلاقةَ بين الأدب والتأريخ أكثر دهاءً من ذلك، أمّا عن «تاريخيّة النصوص» و«نصيّة التاريخ»، فتاريخيّةُ النصوص تعني عنده الخصوصيّةَ الثقافيّةَ والقاعدةَ الإجتماعيّة لكلِّ أنواعِ الكتابة، أمّا فيما يتعلق بنصّيةِ التأريخ فتعني: أننا لا نستطيع التوصُّل إلى ماضٍ كامل وصحيح، إلى وجودٍ مادّيٍّ معاش، دون وساطة الآثار النَصّيّة المتبقّية للمجتمع موضوع الدراسة، فالنصُّ إذن، هو مفتاحُ الدخول إلى التاريخ الثقافي والإجتماعي للعصر في غيبة الشواهد المادّيّة غير النصيّة على العصر، وهذا ما يقصدهُ أتباعُ التأريخانيّة الجديدة بـ«نصّية التاريخ»، وهذا مايؤكِّدُهُ الناقدُ الفذّ محمّد قاسم الياسري.
كما يؤكّد في تقنيّات السرد القصصي أو الروائي، أنّ مصطلح «السارد الرائي» كنوعٍ جديد من السارِدين، وامتداده في الشبيه أو القرين يمثل تقنية ملائمة لسرد الرؤيا وبنائها، وهو نقلة نوعيّة في مصطلح السارد، حيث هو شبيه بالسارد العليم من جهة، ومفارق له من جهة أخرى، فالسارد العليم هنا يعني بإنشاء المشهد الواقعي، في حين يتأهّل الساردُ الرائي لسرد الرؤيا، ويستند إلى الناقد (الشبيبي) في وضع التوصيفات الخاصة بالسارد الرائي، مقابل السارد العليم، وهي كما يلي:
– يظهر السارد الرائي مع ظهور حزمة التقنيات التي تسهم باكتمالها بالتزامن مع ظهوره في السرد.
– يتبع ظهور السارد الرائي انحرافٌ واضح في لغة السرد بما يسمّى «هجانة اللغة» وتعدّدها بحسب السارِدين وظهورهم ممّا يعني أنَّ لكلّ ساردٍ لغته.
– إنّ الساردَ الرائي يمهّد لظهور مكان الرؤيا وزمانها بما يحملانهما من مواصفات خاصة لانبثاقها.
– إنّ تقنيّةَ السارد الرائي لا تشبه نظامَ تعدّد الأصوات المعروف عند أفضل ممثّليه (ميخائيل باختين)، وإنّما هي تمثل صوتاً مونولوجيّاً نسمّيه تعدّد الصوت الواحد وامتداده في الشبيه.
– إنّ تقنيةَ السارد الرائي تعنى بإظهار صوت المؤلف وعدم اختفائه واستمراره في صوت الشبيه الذي يماثله في مجال تخصّصه وإبداعه بالذات، وهو الإسمُ المستعار الذي يمثل الشبيه هنا: فالإسمُ المستعار هو اسمٌ نختاره لنفسنا ولا يقلّ اعتباطيةً عن الإسم الشخصي، وهو لا يحيل إلى شخص يتميّز عن ذلك الذي يستعمله، إنّه يشير بالضبط إلى مثل ما تشير الكُنية واللقب.
– إنّ تقنيةَ إظهار المؤلف في دور السارد الرائي وامتداده في السارد القرين، تعني رفع رتبةِ المؤلف إلى منزلة المؤلف- الحجّة في النوع الأدبي الذي يستطيع أن يجترح او يخرق نظاماً من أنظمةِ السرد الخيالي فيضيف إليه ويجدّد فيه.
يتبع..
Leave a Reply