بقلم: كمال العبدلي
وأنا أتهيّأ لمواصلَةِ البحث في جذورِ منع المطبوع، والآثار المُدمِّرة على تطوّرِ الأدب، والمجتمع تبعاً لذلك، بغيةَ الربط بين حرّيّةِ الفكر وبين استقلالِ القرارِ السيادي على الأرض، وقعتْ بين يديَّ مقالةٌ إرشيفيّةٌ كتبها الشاعر جيان يحيى بابان بعنوان «وطنٌ وذكريات عن حسين مردان» التي نشرَها في تشرين الأول عام 1989، أدرج نصَّها أدناه، لأجلِ اكتمالِ التمهيد للدخول في تفاصيل اشتياع جريمة حجب حرّيّة الفكر في عالمِنا العربيّ التراجيديّ المتواصل منذ أواخر أربيعينات الماضي القريب، ولغايةِ اللحظة الراهنة.
«وطن و ذكريات»: جيان يحيى بابان يكتب عن حسين مردان:
«أستعيده في ذهني، الإنسان حسين مردان، حركاته ثقيلة غير مفاجئة وما يدهش فيه يداه بأصابعهما الغليظة القصيرة وبشرتهما الطرية، عيناه صفراوان مثل عيون القطط غائرتان تحت نتوء حاجبين كثيفين، جبهته عريضة أرجوانية لمّاعة ينحسر الشعر عنها من سمت الرأس ويتجمع عند قفا رقبته كثيفاً وعلى فوديه.
في ردِّه على سؤال الحاكم الذي قاضى فضائحيته، وعن السر في تسمية الشاعر لديوانه الأول «قصائد عارية» قال حسين مردان: «.. إن الشاعر يجب أن يكون صريحاً في تعبيره عما يختلج في نفسه، ولم أتوخَّ في قصائدي إلا، إظهار الحقائق عارية ليتبينها الناس».
الثابت أن الأجيال القادمة قد تقرأ شعره، وقد تضحك من سذاجته وسهولته ومباشرته:
يا أنت.. / يا أعز من روحي/ ويا أحلى من النور الى الضرير/ كيف ترى يحملك السرير؟
هل كان حسين مردان باهراً في سذاجة فضائحه وطفوليّتها ومباشرتها؟!
هناك نوع من التناقض الواضح، التراجيدي في بعض شعره، ولم تكن لغته مألوفة لكثرة من القراء حين تناول العلاقة ما بين الرجل والمرأة بأسلوب مباشر طفولي فاضح.
ربما لم تكن محاولاته مألوفة في فرض نمط حياته وفكره وتعبيره الشعري! ومع هذا كان حسين مردان طاقة أثارت الإهتمام وهذه حقيقة ملموسة في تلك الظروف التاريخية.
هل كان شعر فضائحه شبكة نجاته أو هويته معاً؟ ما هو دوره في عملية تحديث الشعر؟ ما هي مكانته في الشعر عامّة؟
النقاد هم الذين يجيبون عن هذه الأسئلة.
كان ممتعاً النظر إلى حسين في جلسته في مقهى البرازيلية في شارع الرشيد وسط بغداد، وأيضاً خلال دخوله الإحتفالي إلى اتحاد الأدباء العراقيين. يبدو ضخماً عريض الكتفين محتفظاً بكبريائه الخاص، وكان يجيد لعب الدومينو والورق، وتترقرق في طبعه سذاجة وبساطة مفرطة، وحين يضمُّه محفل لا يصغي لما يقال، ولكنه لا يكشف عن سذاجته وبساطته، يرتدي ملابسه بعناية، وفي مظهره العام يبدو متكيفاً بتأثير «قصائد عارية».
ربما كانت تفضح دون قصد عن سذاجة معرفته وعذرية أو طفولة تصرفاته ومع ذلك تقبّل مشوبا بالفخر ما كتب عنه: أنه رائد للشعر الوجودي في العراق، وكان يرغب دوماً أن تكون له خليلات وحياة تتناقلها الصحف و تكتب عنها.
كان في ميسوره، وهو جالس خلف زجاج واجهة مقهى البرازيلية قريباً من مدخلها الشمالي، أن يحدق في أرداف النساء العابرات على رصيف الشارع متنقلاً بنظراته بين سيقانهن، ومردداً في صوت غليظ أبح عبارته المفضلة:
– أخي، سوف يبقى الجنس ملهماً للفن والشعر حتى القيامة، و يضحك غفلة «خ خ خ … خ خ … خ خ… لَكْ أموت على النهود و الأرداف».
وكان يسهب أحياناً فيصف التكّور المتهدل قليلاً للنهود تخالط لون بشرتها الحليبية الصفراء شقرة البرتقال، فترتسم على وجهه انطباعة متألقة افتراسية، ومتطلعاً بنظراته في المارة على الرصيف.
لقد عرف حسين مردان، كما يقر كثير من معاصريه، كيف يلفت أنظار الآخرين، وصار مسؤولاً بطريقته الخاصة عن التعامل مع الآخرين والمجتمع وهذا أمر طبيعي، وكان قد وجد انعكاس «الحرية الفردية» له، كما يخيل اليّ، في شعر الفضائح الأمثل، وناطح في هذا اللون من الشعر، التقاليد في محرم مقدس لها «جسد المرأة»، ولم يكن يريد أن يخفي سروره بـ«حريته الفردية» غير أن مثل هذه الهرطقة لم تكن مقبولة على الدوام، ومع هذا.. يبدو أن عملية الشعر لديه، مثلما هي لدى بعض معاصريه، كانت تردّ إليه حريته، وتحسّسه ببشريته، وتمنحه حقه الإنساني بالوجود أو تعزز، على الأقل، القناعة بمثل هذا الحق الطبيعي.
من ناحية ثانية، كان شغوفاً بأن يخلط في شعره فضائح موضوعات شعراء سبقوه، وتجارب أسرار البيوت العامة، وعاشقات ملاهي بغداد في الخمسينيات، وجميع هذه، تظاهرات غير مألوفة لمعاصريه في حين ثمة قسط وافر من السذاجة الصاخبة في شعره تطالب بضرورة التغيير الإجتماعي.
ليس من قبيل المصادفة بالطبع إذا كانت «الأنا» تملك قوة الخلق، شعراً بالنسبة إليه، فإنه كان مأخوذاً، كما يبدو، مثل غالبية معاصريه في أن ما يكتبه «يفجر ثورة». ومثل هذه الإشكالية الرومانتيكية كانت بالغة الحدة عنده ولدى غالبية كتّاب جيله، فالوعي كان عنده خالقاً للعالم وطغيانته معاً.
«بعت للشيطان روحي فالذي/لم ير الشيطان لا يعرفني/…./أعرف الخير ولا يعرفني..».
ومع ذلك تفوح من قصائد شعره روائح طفولة وسذاجة وزخم احتياجات جسدية وروحية. من جهة أخرى هناك آثار سعيه الدؤوب في التوجه نحو الإنسان والحديث معه وعنه. والسؤال هو إلى أي مدى تكشف النزعة الذاتية في شعره «الفاضح» عن الوجه النقيض الآخر لها -العذرية-!؟ ويتصور البعض أنه اختلق قسطاً من فضائحه شعراً، في تعامله مع موضوعة المرأة، ربما ليصوغ رغبة بسيطة وهامة هي الحاجة إلى الحب والحنان، الحاجة إلى الإنسان الآخر!
هذا وسرعان ما يحاصر القارئ لشعره عن المرأة، بصرخات بدائية تعبيراً عن رغبة استعباد الجنس الآخر، إنه لا يدخل الحب في قصائده بوصفه اتحاداً اختيارياً متكافئاً بين المرأة والرجل، ويتجسد الإضطهاد الإجتماعي للمرأة في لغة شعره المتعالية تجاهها، فهي المطلوبة وكأنّها الطريدة المنتظرة للإفتراس الشهواني-البدائي في صوره الشعريّة، وحيث صرخاته هي بما يشبه الدفاع «الفني» عن الملكية الخاصة للحب، فهو ينشد الحبَّ سعياً للإمتلاك الشخصي أي امتلاك الجنس الآخر، من ناحية أخرى يدعو وعيه إلى التحدث والتقدم الإجتماعي من منطلق إنساني عام.
لم يكن حسين مردان وحده ضحية هذا التناقض التراجيدي، في وقت كان منطق الضرورة يفترض بأن المقصود لم يعد مجرّد الخلاص من اللاعدل الإجتماعي بل التحرّر بالمعنى التاريخي، بكلماتٍ أخرى، كان التناقض السائد في مفاهيم الخلاص من اللاعدل في تلك الفترة بالنسبة لجيل حسين مردان، هو التناقض ما بين ضرورة التغيير وآليته في إدراك كيفيّة وقدرة تحقيق هذا التغيير، ولم يكن ممكناً لجم شعر الفضائح، عن مهاجمة العلاقات الإجتماعية التي تطبع بطابعها أيضاً العلاقات الثنائية ما بين الشعر عامة وهذا الشعر خاصة.
التتمة في العدد القادم..
Leave a Reply