بقلم: كمال العبدلي
تتمّة مقالة الشاعر جيان بابان عن حسين مردان:
-2-
عندما فكرت في كتابة انطباعاتي عنه وعن جيلنا ذكرتني هذه المناسبة بمبدأ تقوم عليه الوظيفة الاجتماعية للشعر أو رسالته المعرفية والجمالية، وهذه هي موضوعة التساؤل. أضع المسألة بهذا الشكل، لماذا شاعت سمعة حسين مردان كشاعر وجودي قرأته العامة وفهمته وهو الذي أعاد إنتاج غرائزه وحرارة جسد المرأة وطراوته مكيفاً نفسه لحاجاته الغريزية والفكرية؟! لقد زين حسين مردان شعره بأناه التي قصد بها قهر الجنس، المرأة الشمولية التي تغزل بها. وكانت عملية التزيين، كما أعتقد، شكلاً لاستيعاب الحاجة الحسية الواقعية لديه، ولهذا ألا يمكن القول إن الوجه الآخر لهذا التزيين هو التعبير عن الحرمان العاطفي والاجتماعي الذي عاناه؟! منطقي أن التزيين هنا هو عطاء لا غير..
قد لا يتيح تراث الرجل، الشعري والنثري، فرصة القول بأنهما يتسمان بقدر متساو من الأهمية في تحديث الشعر كظاهرة وضرورة تاريخية مقدار ما تتسم مساهمات شعراء معاصرين له، مثل السياب، البياتي، نازك الملائكة، أدونيس، الحيدري، سعدي يوسف وآخرين. غير أن شعره يحمل، كما يخيل إليّ، قدراً ملموساً من سمات مرحلة الصراعات الاجتماعية قبل ثورة تموز وخلالها وما بعدها.
أعيد سؤالي الأول: هل كان حسين مردان مجدداً في الشعر، وهو الذي تصور كما أظن، أن المحرومين في أمته يصفقون لتجاربه!!
فكرت بالعلاقة بين التجريد الغالب في الأدب اليوم، وبين منظور الأغلبية العظمى من القراء من سكان بلداننا إلى الأدب والثقافة عموماً، بين حدود رسم وطبيعة الصورة الأدبية، معرفياً وجمالياً وأخلاقياً، وبين الواقع اليومي المتناقض، الذي يحتاج إلى معرفة بوقائعه الموضوعية، المتغيرة والمتناقضة دوماً. فكرت، والفضل لمناسبة ذكرى حسين مردان، بميكانيكية النمط الفكري وبين قوة التحريك الموضوعية في الفكرة الأدبية، ايديولوجياً وأخلاقياً وجمالياً!! في الأدب الواقعي وفي التراث الأدبي ثراء لا حد له من هذا النوع.
عندما قرأت شعره عثرت على ملامح دلتني أنه كان يستشف الآفاق القادمة مشيراً إلى ظواهر اللاعدل وحقائق الواقع الصلدة. غير أن تفسيراته، ولنقل انعكاسات هذا التفسير معرفيا وجمالياً من جانبه، لم تكن واضحة في الغالب، فهو حبيس التغير الذي لم يبلغ بُعده حتى الآن، بُعده الذي يتعرف فيه على صراع التناقضات المحتدم وعلاقاتها، كما هي، خارج الإنسان موضوعيا، كذلك داخل الإنسان ذاتيا، وداخل الصورة الشعرية والأدبية بالذات.
ويعثر القارئ في بعض قصائد حسين مردان، وفي قصائد وأدب وثقافة غالبية معاصريه الآخرين، على صرخات من القلب تطالب بالتغيير. وكان الأدب، والثقافة عموماً، ربما لجيله وله، أيضا بمثابة الثورة رغم اختلاف الرؤية إلى الثورة، والأنا عند حسين مردان، مثلما هي لدى كثير من معاصريه، تندفع صارخة أمام الجموع تلوح في مخيلة الشاعر، فاتحة الذراعين للإنسانية رغم غموض وتجريدية الحب العارم لهذه الإنسانية، ومع ذلك، فصيحات جيله كانت دون ريب تنشيطاً للثورة التي كانت تختمر تاريخياً.
صحيح أن في شعره سذاجة في الوعي الاجتماعي وأيضا هناك سذاجة فيما يخص مستوى الوظيفة التطبيقية في شعره، ومنطقي أن مجرد الموقف العاطفي من القضايا الاجتماعية يحدد موقفا عاطفيا من الوطن. وينسحب مثل هذا الموقف عملياً على كامل النمط الفكري والثقافي والسياسي فيما بعد.
والآن، هل كان شعر حسين مردان رغم ذلك اقتحاما للواقع أو تشخيصاً للاحتجاج الذاتي؟!
هل اكتفى بالطابع المجرد الذي اتخذته قصائد فضائحه العارية عموماً؟!
هل سعى كشاعر إلى خلق توازن أخلاقي- جمالي من خلال فضائحه؟!
النقاد والاختصاصيون هم القادرون على الإجابة على مثل هذه الأسئلة.
أستعيد حسين مردان في ذهني وصوراً وذكريات عن اتحاد الأدباء العراقيين، المنظمة الديمقراطية التي قاتلت حتى النفس الأخير من عمر ثورة تموز 1958، دون أن تتخلى عن سلاحها الفكري، الوطني الديمقراطي التقدمي، في مواجهة قوى اليمين المنفلتة إرهابا وفوضى وفكراً معادياً. وكانت جريدة الثورة البغدادية في مطلع الستينات قد شرعت تنتهك أعراض الناس كل يوم وبلا تورع مشهرّة بالوطنيين وفي مقدمتهم بالشيوعيين، في وقت كانت فيه دماء الكرد والجنود العراقيين تهدر في معركة باطلة تسعر نارها القوى التي سوف تغتال فيما بعد ثورة تموز كما تغتال قادتها.
كانت قوى اليمين في العراق منذ النصف الثاني من عام 1961 تقريبا حتى مطلع 1963 منفلتة، عابثة ومهيمنة في نشر إرهابها بتخطيط سياسي وقمعي منظم أداره ومارسه العفلقيون والرجعيون.
أما عبد الكريم قاسم فكان يبدو وكأنه يمثل دور من لم تتجاوزه الأحداث بعد، في وقت كان فيه عنف اليمين يشل العاصمة ومدن البلاد وأريافها، وتُقمع أي بادرة للقوى الوطنية في مواجهة الإرهاب اليميني.
جلسنا ذات مساء جلستنا المعتادة عهد ذاك في حديقة مبنى اتحاد الأدباء. كانت دائرة من الكراسي المشغولة تتسع كلما جاء زائر جديد.
وسأل شاعر شاب ذو وجه مغولي الملامح كان يكبح ابتسامته، وعيناه تطرفان مصعداً في وجه حسين مردان ابتسامة ماكرة:
– حسين أجب باختصار، لماذا لم توقّع على العريضة؟!
وضحك حسين بصوت شبه مخنوق مهتز الكرش، وضحك الجلاس. كانت عريضة الاحتجاج على استمرار الحرب في كردستان تدور وقد مرّر حسين العريضة، بعد أن وصلته، إلى جالس جواره دون أن يوقعها. وضحك آخرون وهم يلاحظون تهريب حسين للعريضة وتخلصه منها.
كان هناك الراحلان عدنان البراك ومجيد الونداوي وآخرون ربما مات أو اختفى بعض منهم، لا أدري. غير أن الضحك إزاء تصرف حسين كان عارماً، وعاد الشاعر الشاب والضحكة تذبل في حلقه وسأل من جديد:
– حسين لماذا لم توقّع على العريضة؟!
كان حسين يضحك محتقن الوجه وخاطب الشاعر الشاب بلهجة آمرة وقال: أسكت أنت!
وضحك الجلاس بصخب، وزم مجيد الونداوي على شفتيه، ضاحكا دون صوت، مهتز الصدر، يجيل نظراته بين وجه الشاعر الشاب وبين حسين مردان الذي ظل ينظر متلهفاً إلى وجه عدنان البراك. وأحنى الشاعر الشاب رقبته فبدت نحيفة في ياقة قميصه وأسند ساعديه على ساقيه ماداً رقبته إلى الأمام. كانت تلك عادته عندما يشرع في مشاكسة الآخرين، دون إساءة، وفي عينيه بريق ندي، ثم سأل من جديد:
– حسين أريد أن أفهم لماذا لم توقع على العريضة؟!
التتمة في العدد القادم..
Leave a Reply