بقلم: كمال العبدلي
تتمّة مقالة الشاعر جيان بابان عن حسين مردان:
كان حسين ينظر مبتسماً بطريقته الخاصة في النظر، طريقة بلهاء وجامدة تدعوك إلى التفكير، وقال بلهجة حادة من جديد: أسكت أنت!
– لماذا أسكت ؟! هل وقعت على العريضة أم لم توقع؟!
وضحك الجميع فالتفت حسين إلى مجيد الونداوي قائلا عن السائل بصوت أجش: «هذا مصيبة» فأخذ مجيد يضحك بأسنان سود شبه معطوبة من أثر الدخان. كان مجيد قد عاد من المغرب متخلياً عن وظيفته الدبلوماسية هناك، عاد ليكون في بغداد المضطربة حد المقاومة بالأسنان والمعبأة بالفزع. مجيد الونداوي كان هناك، جالسا بسيطاً بجسده متوسط القامة، حلقة في شبكة بشرية، عملاقة تنسج خيوطها من أجل صيانة الإنسان، صيانة الجمهورية، وحماية الخير والتفاؤل وكرامة الإنسان.
كان عدنان البراك يضحك بهدوء محتشم وبدا كعادته واضحاً، بسيطاً ومتماسكاً، واستطعت أن أتمثله واثقاً من فكرته، وابتسم مجيد الونداوي من جديد ثم ضحك بصوت هامد وبرزت من خلف شفتيه أسنانه المعطوبة بدخان السجائر. وأطرق حسين مردان برهة ثم تعلقت عيناه بوجه عدنان البراك فاستدار نحو الشاعر الشاب وقال بصوت أبح وهادئ: أسكت أنت، هذه قضية أرفع من مستوى فهمك!
وضحك الجلاس كما ضحك حسين والتفت نحو عدنان قائلاً:
– أخي، هذا مصيبة.
وأشار إلى الشاعر الشاب الذي كبح في وجهه المغولي الملامح ابتسامة ماكرة.
وقال عدنان بصوت هادئ:
– حسين مع العريضة حتى ولو لم يوقع عليها.
واعتدل حسين في جلسته ضاحكا، وقد استعاد للحظة تلك العفوية الساذجة والطفولية في تصرفاته. وضحك بقوة، وغص بضحكته وأصلح وضع ساقيه ليتيح لكرشه المتهدل الاستقرار بوضع مريح في جلسته، وصاح بصوت لم يخف فيه نشوة الفرح مخاطبا الشاعر الشاب بلهجة تشّفٍ صارخة: لَك، ها؟! هذا حكم التاريخ، وأنت أسكت!!
وضحكنا جميعا. ربما شعر حسين بورطته، لكن الآخرين عرفوا تلك الورطة وضحكوا لها.
لقد طاردت الحكومة يومذاك عدداً من الموقعين على تلك العريضة وتلقى البعض منهم أحكاماً بالسجن زادت على سنة واحدة، وشهدت بغداد موجة جديدة من «صيد السحرة».
***
لا أدري إذا كنا جيلاً أصغر من الجيل الذي مثله حسين مردان ومجيد الونداوي وغائب طعمه فرمان. كنت واحداً من شلة أصدقاء ومعارف، كتاباً وشعراء ومسرحيين ونحاتين وخطاطين ورسامين ونقاد، غادر قيس الزبيدي إلى ألمانيا لغرض الدراسة ومعه أحمد. كنا نسميه «كرديت-دبت» (دائن – مدين). وكان يتعامل مع الوقائع اليومية بمفردات المحاسب: الدائن والمدين الخ. تشرق الشمس فهي كرديت وتغرب الشمس فهي دبت.
كان يقولها بصوت «موصوص» في وجه مدبب الذقن، مثل رسوم بعض الأطفال. ومنذ ثلاثين سنة لا أعرف عنه شيئاً، ذلك الشغوف بوصف الوجوه المختلفة للحقائق الأولية الملموسة بلغة هزلية في وقت بدأت فيه عملية خلط وتغيّر للوقائع والحقائق، جديّة ومدمرة. وغادر صادق الصائغ إلى جكسلفاكيا ثم تبعه مفيد الجزائري. وسافر عدنان المبارك إلى بولونيا، كما اتجه عبد الله نحو حبه للدراسة في الخارج. وحمل أرداش كاكافيان حقائبه باتجاه باريس، في حين توجه محمد كامل عارف إلى بولونيا وفيما بعد إلى الاتحاد السوفييتي. وضاع مصطفى عبود في مدينة البصرة. وكان سعدي يوسف، هذا البصراوي، قد استقر في بغداد وكتب قصيدة «الطير المهاجر» كما أذكر.
كان هناك عدد آخر من الأصدقاء، من شغيلة الثقافة، عكست تلك السنوات العاصفة سحابتها بصورة ما في نمط تفكيرهم، وبعضهم ما زال في العراق. غير أنه من المحزن والقاسي أن تخسر قضية عادلة انساناً حميم الارتباط بها.
عن تاريخ تلك الفترة قرأت، في الغربة، قصيدة كتبها حسين مردان قال فيها:
«… لم أشترك أبداً بأغنية المجوس/الليل في بغداد سقف من فؤوس/ولو أنني أدري ستنفجر الشموس/فإذا الرؤوس /مشدودة بالموت في ظل التروس/وعمامة «الحجاج» قد وضعت /وزمجر في النفوس/حقد التيوس…».
عندما أستعيد لحظات الشعور بالشمس المحرقة في شوارع بغداد في أول أيار 1959 ممزوجة بالعرق وروائح أجساد عشرات الآلاف من المتظاهرين، أفكر بكل التعاونيات الزراعية التي صفيت فيما بعد، وبالنقابات التي زورت قياداتها، وبالوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين الذين قتلوا وعذبوا واُذلوا فيما بعد…
ويبقى السؤال الذي ربما شغل جيل حسين مردان والأجيال اللاحقة هل كان هناك بديل عن المآسي التي تعاقبت؟
أعود إلى ذكرى حسين مردان فمهما كانت القضية التي يثيرها شعره وأدبه فان حياته تشغل مكانتها بصورة واضحة في ظروف تاريخية عاصرت ثورة تموز 1958، في الإعداد لها وقيامها والتآمر عليها. وأكيد أن حسين مردان مثل أي كاتب آخر، طرح بطريقته الخاصة القضية التي كانت تخصه لوحده، قضية الأنا. وتبقى قضية الأنا الآخر، أو الوجود الاجتماعي الموضوعي له تبقى محور أسئلة واهتمامات نقاد الشعر والأدب.
ربما في آخر كتبه، وقد قرأته في الغربة، يقول «سأدفن لساني في الصمت وبعد أعوام قد تطول سأعثر عليك في شارع ما.. وستقولين لولدك انظر إلى هذا الشبح جيداً، فإنك لو أردت القمر يوماً وذكرت له اسمي لجاء به إليك».
أي نزوع طفولي لا يصدق وانتحار رومانتيكي فادح إزاء الحب والحياة؟!
كثيرون ممن عاصروه تميزوا عنه بقدراتهم التقنية والمعرفية، في التعبير وفي انتقاء موضوعات شعرهم أو أدبهم غير أنه كان إنسانا ببساطة، انساناً منتسبا لجبهة الإنسان وهذه قيمة، وهي قيمة ثقافتنا الديمقراطية.
في الطريق إلى المنفى كنا نجلس على مقعدين متجاورين في مؤخرة سيارة (باص) كبيرة اخترناهما لرخص أجرتهما. وكانت عظامنا تتداخل مع بعضها من جراء الطريق الصحراوي الوعر الذي اجتزناه. عبرنا بلداناً سوية. عبرنا بحاراً سوية، تذكرته في مقهى في اسطنبول وأنا أودعه، كان وجهه المحتقن قد ارتجفت وجنتاه برهة وازدحم دمع في عينيه الصفراوين الغائرتين، صافحته وتعانقنا ولم أره بعد ذلك. وها قد مضت خمس وعشرون سنة في المنفى، وفي المنفى أيضا مر من هنا، مجيد الونداوي وتحدثنا عن حسين مردان، وقد كتب اليّ مجيد من بغداد فيما بعد رسالة مشتركة مع الشاعر الشاب مغولي الملامح.
لقد مات مجيد الونداوي في بغداد ومات حسين مردان أيضاً، أية فواجع كتب على جيلنا أن يشهدها؟!
ما زال المنفى قاسياً وما تزال الحياة تتجدد. «فالقبر هو المكان الوحيد الذي لا يعلمني شيئاً» كما يقول بريخت.
Leave a Reply