بقلم: كمال العبدلي
نظراً لحسّاسيّة موضوعة حرّيّة الفكر، وما تشتمل عليه من تفاصيل دقيقة في عمليّة خوض الصراع، بين منتجي الفكر وتفرّعاته الإبداعيّة من جهة، كونهم منتجي ثقافةٍ لشعبٍ ذي حضارة عريقة ينتمون إليه، وبين الحركة الأخطبوطيّة التي تواجههم في مجرى الصراع من جهةٍ أخرى، سواءً على مستوى ديناميكيّة اليومي، أو في مجابهة الآلة القمعيّة الجهنّميّة التي وظّفتها السلطات الحاكمة من أجل الإبقاء على حالة التخلّف التي تعانيها الطبقات المسحوقة في المجتمعات التي تمارس عليها دور الوصاية التي لاتقهر، لا بدّ لنا من استعراض جوانب متعدّدة من الطروحات والوقائع والآراء، تغني جوهر القضيّة، عدا عن الإسهام في الإرتفاع بوعي القاريء، ليكون مساهماً في رصد وتتبّع المشهد ذي الحسّاسيّة التي أشرنا إليها، كما لابدّ من الإشارة إلى أنّ الأديب العراقي قد تعرّض للإضطهاد الفكري، بدرجة لم يقاربه فيها أقرانه في أيّ بلدٍ عربيّ آخر، أو أيٍّ من أدباء العالم الثالث، على الإطلاق ودون أيّما مواربةٍ أو تسويفٍ أو جدلٍ طوباويّ، حيث لا يخلو ذلك من شهاداتٍ لاتحصى من قبل أولئك الأقران الأفذاذ.
ولكي نتبيّن السياق المأساوي للمشهد الواقعيّ العام – ولو باقتضاب – هنا أقدّم مقالة الدكتور يوسف السعيدي المنشورة في جريدة (صوت العراق) بعددها المؤرّخ في 3-6-2010:
مشهدُ الحزنِ الموروث…على جداريّة المأساة العراقيّة
من بلاد مهد الحضارات…من بلاد الحزن …والمقابر الجماعيّة لأحلام الناس وأمانيهم…من بلاد النخيل ومصائب وويلات النفط الاسود….بلاد ملتقى الغزاة ووفرة في رموز الخيانات…من بلاد الرافدين، رسم العراقيون رسائل الحزن الموجعة، من أجيال العراقيين التي فقدت من يقرأ رسائل حزنها بعد أن ولدت أحلامها وأمنياتها، مقتولةً، عبثاً تبحث هذه الأجيال في متحف هياكل السياسيين عن أملٍ تمسك به، حتى في مخلفات الهزائم المتتالية عن سبب للمأساة الجاهزة للواقع العراقي، فاكتفت باجترار خفايا وألغاز الأوضاع المرتبكة، وتدوين أزمنة الإحباطات على جدارية الذات، بعض الأجيال من العراقيين أقنعت نفسها بأنّ الحالة العراقية مسيّرة باتجاهٍ مرسومٍ لها، ولا دور للإرادة الوطنية فيها، صراخ المعاناة غير مسموح له بمغادرة صدورهم ليتقيّأوا جمرةَ الرغبة في محاولة التغيير الأفضل.
أجيالُ الحزنِ الموروث وقفت أمام مصيرها مرّاتٍ عدّة، أمام صناديق الاقتراع لانتخاب ممثّليها والتصويت على دستورها، فلا بعض الفائزين احترموا ثقة هذه الاجيال، والتزموا بإرادتها عبر البرامج والشعارات والإنجازات، ولا الدستور استوعب المرحلةَ ومثّل الواقع والطموح العراقي، وجوه عجائز السياسة، علمانية أو إسلامية ..قومية أو يسارية ليبرالية، تشبه بعضها وتلغي بعضها، العراقيون ملزمون أن يُدلوا بأصواتهم في ثقب الصندوق الانتخابي، هكذا تتطلب أصول (اللعبة) السياسية، لا بل ان البعض يراها لعبة الهروب من ضغوط المفخخات والمتفجرات والعبوات والأحزمه الناسفة، وأخطار عودة أشباح المراحل البعثية الدموية، واستسلاماً لحالة الخيارات الصعبة بين السيء والأسوأ، أجيال من العراقيين تعيسة الحظ، لم تكن سبباً في الهزائم والانتكاسات والخيانات، ولا مسؤولة أو راغبة في التدهور المأساوي للحالة الراهنة، لكنها وجدت نفسها وسادة لجنازات مراحل السقوط السياسي والإجتماعي، ومضطرة لمعايشة بقع دمامل فسادها على وجه مستقبلها، تبحث بين أزمنتها الخائبة عن محطة تغتسل فيها من مخلفات مراحل الاحباط، ولكن هل أصبح العراق عاقراً لا ينجب أجيالاً مؤهلة لارتداء هوية العراق لا غير ؟ أم أنّ الولادة المتعسره يجب أن تكون على يد قابلة مستورده؟
ينظر البعض أن العالم قد تغيّر ودخل عصرَ العولمة وسلطة القطب الواحد، وأصبح واقع العمالة والتبعية (لا يدعو للخجل)، لكن هل ثمة مبرّرات لظاهرة الفساد والاختلاس والرشوة وتهريب ثروات الوطن وسرقة حتّى الجوع من أفواه أهله؟ في العراق اليوم بدأ يتشكّل جيلٌ جديد من السياسيين الوطنيين الشباب ومتوسطي العمر، وكذلك من بعض المخضرمين يعملون على تجميع أجزاء الهويّة الوطنية التي مزّقها الفورانُ الطائفي القومي، و(الردح) المحاصصاتي ثم إعادة خياطتها إلى بعضها لتصبح خيمة جاهزة لائقه لجميع أبناء المجتمع العراقي، لكن عجائز الإنتكاسات والتجارب البائسة، ترفض بعناد بليد الخروج على عجزها وابتلاع (كبسولة) مسؤوليتها ثم الاستسلام أو التنحّي على الأقلّ مصرة على إعادة زراعة الحزن والمأساة في جسد العراق الجديد والإمساك بارادة أهله ومستحقّيه، وحصرهم بين جدران تجاربهم الميتة، ونحن نراقب حزن الشارع العراقي المزروع بالملثّمين والمفخّخين من بقايا مجرمي البعث العفلقي الصدامي والمختلسين ومدمني الرشاوى وسرقة أرزاق الناس من بعض متصدّري العملية السياسية الراهنة، وكذلك من قسوة غموض المخططات الأميركية والدول الإقليمية والخوف من خلفيات نواياها ومشاريعها غير المعلنة، إلى جانب تعدّد ومجهولية الجهات والمصادر المسؤولة عن قتل الأمن والإستقرار وتعذيب النفس العراقية.
إنّ الشارع العراقي حزين …هارب إلى الأمام …مدفوعاً بضغوط اليأس والخيبة وإعصار الهيجان العنصري، أحياناُ…يمنح بعضهم صوته مكرهاً، وثقته مستغفلاً، لمن لا يمثّل إرادته ويحرص على مستقبل أجياله ويسلب خصوصيته ويصادر حريته وكرامته ويتطاول على نسيجه الإجتماعي، ورغم مرارة الإحباط واليأس يواصل شدّ الرحال إلى مرافيء المستقبل، وكنّا في زمنٍ مضى ونحن من الرعيل السابق لضحايا الموت العفلقي، وممّن عانى منه أشدَّ المعاناة، كنّا نخلط بين الإنتساب لحزب ولعقيدة قومية ومذهب، وبين الإنتماء للوطن، فلا نحن للوطن ولا الحزب أو الحركة السياسية، تلك كانت مأساة ضياع بعض أجيالنا، عواطف معطوبة وإرادة معوّقة، خسر بعضنا زمانَه ورحل بعضُنا، وسيكتمل رحيلنا وتدفننا شفاعة معاناتنا في مقابر الضمائر الحية، إنّها رسالة الحزن العراقي لأجيال المآسي المتعاقبة.
Leave a Reply