حسن خليفة – «صدى الوطن»
تشوهت كثيراً صورة المشهد الطبي فـي الولايات المتحدة الأميركية، ولاسيما فـي ميشيغن التي شهدت فـي السنوات الأخيرة عشرات حالات الاحتيال التي ارتكبها أطباء وممرضون وصيادلة بهدف جني الأرباح المالية دون اكتراث بالرسالة الإنسانية التي تحملها مهنة الطب. ولا شك أن جشع ووحشية بعض الأطباء أدت خلال السنوات الأخيرة الى زعزعة ثقة النَّاس بالجسم الطبي الذي كان يحظى عبر الزمن باحترام وتقدير المجتمع. ولكن النظرة العامة لمهنة الطب آخذة فـي التغير خلال السنوات الأخيرة، ليس فقط بسبب الفضائح والجرائم التي ترتكب باسم المهنة، بل أيضاً بسبب تشكيك الناس بمعرفة بعض الأشخاص الذين امتهنوا الطب بهدف جني المال الوفـير أولاً.. وأخيراً.
ورغم أن الأطباء المرخصون فـي أميركا يخضعون للتدريب المكثف والخبرة الأكاديمية والعملية الواسعة خلال سنوات الدراسة الجامعية والميدانية التي لا تقل عن ثماني سنوات قبل بدء حياتهم المهنية، إلا أن العديد من المرضى يصدمون بقلة معرفة أطبائهم وهشاشة علمهم، حيث بات التحقق من المعلومات الطبية أمراً يسيراً على الناس مع التطور التكنولوجي وتوسع عالم الإنترنت وهذه ميزة لم تكن متوفرة من قبل.
الطبيب الشيطان
مهنة الطب مهنة شريفة ونبيلة، وهي مهنة إنسانية فـي المقام الأول أساسها الرحمة ورسلها الأطباء، ولكن المحاكم الأميركية، ومحاكم ميشيغن تحديداً، شهدت فـي السنوات الأخيرة قضايا تدل على عكس ذلك تماماً، بل إن بعض الحالات فاقت كل التصورات وتركت بقعة سوداء كبيرة على ثوب الطب الأبيض الملائكي.
من بين أبرز القضايا تلك، قضية الدكتور فريد فتا التي كشفت جشعاً ووحشية قل نظيرها. ففـي العام الماضي، أدين طبيب السرطان اللبناني الأميركي، من مدينة روتشستر هيلز بتعمّد التشخيص الخاطئ لأكثر من ٥٥٠ مريضاً مدعياً إصابتهم بالمرض الخبيث بهدف تحقيق الربح المالي بعشرات ملايين الدولارات عبر إخضاعهم لعلاجات باهظة الثمن مثل العلاج الكيميائي (كيمو) دون لزوم أو داعٍ طبي.
فـي النهاية أقر فتَّا -أو «الطبيب الشيطان»- بذنبه فـي ١٣ تهمة احتيال طبي وجهت اليه، ودفع غرامة قدرها أكثر من ١٧ مليون دولار بعد تسوية مع الادعاء قضت بسجنه ٤٥ عاماً.
ومع تكشف فصول قضية فتّا، ازدادت الانتقادات للأطباء عموماً فـي مترو ديترويت، وقام البعض بتوجيه أصابع الاتهام للأطباء العرب تحديداً بسبب أصول فتّا اللبنانية، لكن فـي واقع الأمر إن مقترفـي جرائم الإحتيال الطبي فـي ميشيغن ليسوا فقط من العرب الأميركيين، بل ينتمون لمختلف شرائح المجتمع. غير أن العرب يشكلون نسبة كبيرة منهم لأنهم يكونون شريحة أساسية من الجسم الطبي فـي المنطقة.
وفـي العام 2015 قامت السلطات فـي ولاية ميشيغن بإصدار قرارات عقابية وتأديبية متفاوتة شملت 1200 أخصائي فـي الرعاية الصحية، بينهم أطباء وأخصائيون فـي العظام والعلاج الفـيزيائي وصيادلة، لمخالفتهم قوانين الصحة العامة، وفقاً لسجلات لانسنغ.
وتضمنت القرارات، التي أصدرتها وزارة «الترخيص والشؤون التنظيمية» فـي ميشيغن (لارا)، غرامات مالية ووضع المخالفـين تحت المراقبة (بروبيشن)، وتعليق او إلغاء رخصة مزاولة الطب أو وضع شروط على الرخصة الطبية.
وشملت القرارات الصادرة فـي العام الماضي، ١٦ مخالفة فـي مدينة ديربورن، و6 فـي ديربورن هايتس، وتراوحت التهم بين «انعدام العنصر الأخلاقي» و«إساءة استخدام المواد المخدرة» عبر تقديم وصفات طبية غير مستحقة.
ابحثوا فـي تاريخهم
لا أحد يرغب بأن يقع بين يدي طبيب فقد أخلاقيات المهنة ومستعد لأن يفعل أي شيء لزيادة أرباحه.. لكن كيف يمكن أن نتفادى هؤلاء؟ فهناك العديد من الأطباء المحليين الذين صدرت بحقهم عقوبات تأديبية سابقة، لكنهم يستمرون فـي ممارسة المهنة، كما أن العديد من الأطباء -بحسب أحد المرضى- يفضلون أن تتعدد زيارات المريض على أن يتم شفاؤه بأسرع وقت ممكن.
ديفـيد، مثلاً، طبيب يزاول مهنته حالياً فـي ديربورن هايتس، سبق أن وُضِع تحت المراقبة وغُرّم عدة مرات منذ عام 1998. وقد اتهم بالعديد من التهم المتعلقة بتعاطي الكحول والسماح لممرضة غير مؤهلة لوصف عقاقير مخدرة من «النوع ٢» الذي يشمل الكوكايين.
سجل ديفـيد وغيره من الأطباء العاملين فـي الولاية هي سجلات عامة ويمكن الاطلاع عليها وفحصها مجاناً على الموقع الإلكتروني «لارا» التابع لولاية ميشيغن، مما قد يكشف نقاطاً سوداً فـي سجل طبيبك الخاص وقد يدفعك الى البحث عن «طبيب آخر» أو -كما يقول المريض- «طبيب حقيقي» يحترم مهنته، وهذه مهمة تصبح أكثر صعوبة.
بناء الثقة
يقول طبيب الأمراض الداخلية الدكتور محمد الخنسا، وعيادته فـي ديربورن، إنَّ بناء الثقة بين الطبيب والمريض يقوم أساساً على «الشفافـية والتواصل المفتوح» بينهما، مؤكداً أن هذا التكامل يزيد من معدلات الشفاء و«يقلل من إمكانية التشخيص الخاطئ». وأضاف الخنسا «يجب على الطبيب أن يجعل المريض جزءاً من عملية صنع القرار». ويورد مثالاً على ذلك بالقول إن «بعض الأدوية تسبب عوارض جانبية وعلى المريض أن يفهم ذلك جيداً، ويعود للمريض تقرير ما إذا كان سيتناول الدواء أم لا».
والمعلومات حول العوارض الصحية والظروف الطبية والعلاجات الناجعة أصبحت أقرب منالاً للجميع بفضل سهولة وانتشار المواقع الصحية عبر الإنترنت، مما أدى بدوره لزيادة انخراط المرضى أكثر فـي صنع القرارات بشأن تشخيص حالاتهم.
ويقول الخنسا إنه «يجب متابعة حالة المريض الصحية بالأوقات المناسبة بعد أن يوصف الدواء للمريض لأن هذا هو مفتاح تحديد التشخيص الصحيح، ويفسح المجال أمام التصحيح فـي حالة وقوع الخطأ»، مؤكداً أنه «على الأطباء أن يعرفوا حدودهم فـي الرعاية التي يقدرون على توفـيرها فالعديد من المرضى يحتاجون إلى رعاية متخصصة، والتي تقلِّل أيضاً من احتمال الخطأ فـي التشخيص».
غياب الشفافـية
العديد من أبناء الجالية لديهم ميل لوضع سدود بينهم وبين الأطباء خاصة إذا كانوا من العرب الأميركيين، وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة للوصول الى تشخيصٍ أفضل للحالة.
فمثلاً فـي بعض الحالات، يخشى المرضى العرب من التحدث مع أطبائهم حول الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والأرق، كما أنهم يميلون لإخفاء تاريخهم المتضمن تعاطي المخدرات والعنف المنزلي خوفاً من تسريب المعلومات للجالية.
«الجميع يعرفون بعضهم هنا» يقول المريض «ولا أحد يريد فضح خصوصياته».
وفـي هذا الصدد يقول الخنسا إنه يتوجب إجراء مناقشة بين الأطباء والمرضى حول جميع جوانب وتاريخ المرض والمشاكل الناجمة عنه، مؤكداً أنه لا يجوز إخفاء بعض المعلومات مثل «تعاطي المخدرات أو النشاط الجنسي».
واعترف بأن «الثقة التامة بين الطبيب والمريض تستغرق وقتاً لبنائها وأن الخطوة الأولى فـي تأسيس هذه العلاقة هي شرح القوانين التي يفرضها قانون «التأمين الصحي والمحاسبة» المعروف بـ«هيپا» (HIPAA)، الذي يمنع منعاً باتاً أي موظف مهني صحي من تبادل ومشاركة معلومات المريض مع أحد إلا أولئك الذين قد يعطي المريض إذناً خاصاً لهم».
وبدوره قال الدكتور كريغ ستيفنز، رئيس قسم العلاج الإشعاعي فـي معهد السرطان فـي مستشفى «بومانت» فـي رويال أوك إن «أفضل طريقة لتجنب الحوادث المؤسفة هي انتهاز الفرص لسؤال المرضى عن جميع الأسئلة الطبية من أجل ابتداع أفضل علاج يمكن تنفـيذه».
«أنا مجرد مستشار لمساعدتهم على اتخاذ القرارات السليمة وهم قبطان السفـينة»، شبه ستيفنز عملية العلاج، وأعرب عن تأييده بأن «يسعى المرضى للحصول على آراء طبية ثانية من أطباء آخرين، لانها تساعد أيضاً فـي بناء الثقة عندما يرتاح المرضى لصوابية القرارات بحق علاجهم».
«فـي نهاية المطاف، فإن المريض يتحمل العبء مهما كان العلاج الموصوف لهم من قبلنا أو أي عمليات جراحية نؤديها لهم» أوضح ستيفنز. ويقوم العديد من الأطباء بوصف أدوية وإجراء فحوصات باهظة الثمن من بينها المسح الإشعاع (سكان)، على الرغم من عدم ضرورة ذلك. ويقول ستيفنز إن «الفحوصات قد تكون خطيرة إذا ما استخدمت بكثافة بسبب احتمال حصول مضاعفات مثل النزيف والالتهابات» غير أنه أفصح بأن أطباء السرطان مقيدون باتباع المبادئ التوجيهية الوطنية للتصوير الإشعاعي فـيما يتعلَّق بأنواع معينة من السرطان.
علي الشهماني (٢٥ عاماً) يؤكد أن طبيبه هو صديق قديم للعائلة ولن يبحث فـي قضية تغيير طبيبه «مهما حصل».
لكن عندما سُئل عما سيفعله إذا قام طبيبه بتشخص مرض خاطىء لأحد مرضاه، استدرك بأنه فوراً سيجد طبيباً غيره بغض النظر عن مدى قربه منه.
«وهذا طبيعي» بحسب محمد الربيعي، «فلا مجاملات عندما يتعلق الأمر بصحتك» ولكن إيجاد طبيب جيد وموثوق ليس بالأمر الهيّن هذه الأيام، «فلا أحد يريد أن تُستغل صحته لتحقيق أرباح مالية» على حد قوله.
Leave a Reply