بقرار الولايات المتحدة إنهاء تمويلها بالكامل لـ«وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين» (أونروا)، ستزيد الأعباء والمصاعب على مئات آلاف العائلات التي شرّدت من مدنها وقراها، تحت حراب الاحتلال، ناهيك عن احتمال تزايد الاضطرابات في غزة والضفة الغربية وعموم الشرق الأوسط، الذي يعاني منذ سنوات من خلخلة بنيوية تضع الجميع في مهب الريح.
وما يقلق أكثر في هذا الصدد، أن القرار الأميركي قد اتخذ في اجتماع بين صهر الرئيس دونالد ترامب ومستشاره الشخصي جاريد كوشنر، وبين وزير الخارجية مايك بومبيو، بحسب مجلة «فورين بوليسي»، حيث توصلا إلى إيقاف المساعدة الأميركية للأونروا، والمقدرة بحوالي 350 مليون دولار أميركي سنوياً، ما يشكل ربع ميزانية الوكالة التي تصل إلى 1.2 مليار دولار.
وتتمثل خطورة هذا القرار المجحف والمزاجي، في تهديده –بادئ ذي بدء– للسلطة الفلسطينية وتقويضها في أشد الأوقات حساسية، كما أنه ينقل مسؤوليات الصحة والتعليم والأمن إلى الإسرائيليين، الذين يطبقون بقضبتهم على خنّاق الحياة اليومية للفلسطينيين.
في السياق الأميركي، ورغم أن سياسة الولايات المتحدة تجاه الأونرا كانت موضع تقييم متكرر ونقاش دائم داخل الإدارات الأميركية المتعاقبة، إلا أن القرار الآنف الذكر يبرز تأثير كوشنر والسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، اللذين تغلبا على مقاومة تلك التقليصات من كل من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) والوكالات الاستخباراتية، التي كانت ترى أن التقليصات يمكن أن تؤدي إلى إثارة الاضطرابات في المنطقة.
وبحسب تقرير نشرته مجلة «فورين بوليسي»، نُقل عن كوشنر قوله إن مساعدات الأونروا خلفت ثقافة التواكل (والاعتماد على الآخرين) بين الفلسطينيين، وساعدت في الإبقاء على التوقعات غير الواقعية بأنهم قد يعودون يوماً إلى بيوتهم التي تركوها خلال حرب الـ1948.
وإذا كانت هذه الكلمات تعني شيئاً، فهي تعني وكأن صهر الرئيس، بقراره قطع المساعدات عن الأونروا، يريد للاجئين الفلسطينيين ان يفهموا.. بأنهم لن يعودوا إلى بيوتهم المغتصبة، طال الزمن أو قصر، وعليهم الاقتناع بذلك، والتصرف على أساسه.
ولا شك في أن مثل هذا المنطق أكثر وقاحة من منطق عمه ترامب، الذي لا يفتأ يتراجع عن الكثير من الالتزامات الأميركية تجاه المجتمع الدولي، تحت ذريعة «أميركا أولاً»، أما الصهر فيعلنها صراحة: إسرائيل أولاً.. ودائماً!
ويرى المراقبون، أن كوشنر وهيلي يراهنان على أن الضغط المادي سيضطر الفلسطينيين للعودة للمفاوضات مع الفريق الأميركي المتخصص بالشرق الأوسط، والتي أوقفها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بعد قرار الرئيس الأميركي –العام الماضي– بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. ومثل هذا التفكير، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بأن قرار قطع المساعدات عن الوكالة الأممية، هو في عمقه وفي ظاهره قرار ثأري يتوخى الانتقام من الفلسطينيين وتركيعهم وإذلالهم في لقمة عيشهم وتعليمهم وصحتهم.. لدفعهم إلى طاولة المفاوضات التي لا تلوح فيها أية بارقة أمل حول استعادة الفلسطينيين لحقوقهم المشروعة.
والمشكلة لا تنتهي عند هذا الحد، فالإدارة الأميركية ستقوم على الأرجح بقطع أشكال المساعدات الأخرى للفلسطينيين، بما في ذلك 200 مليون دولار تقدم للمنظمات الخيرية التي تقدم مساعدات طبية وإنسانية للمحتاجين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، مما سيزيد من تعميق الأزمة في القطاع المحاصر منذ عدة سنوات وسط صمت دولي وعربي محبط ومطبق.
الوكالة التي أنشئت في 1949 لتقديم المساعدة والحماية لأكثر من 700 ألف لاجئ فلسطيني، بدأت تواجه –خلال السنوات السابقة– مزيداً من الانتقادات الإسرائيلية والأميركية سواء من البيت الأبيض أو أعضاء الكونغرس المؤيدين بأغلبيتهم للدولة العبرية، وقد قامت الولايات المتحدة في كانون الثاني (يناير) المنصرم بقطع 125 مليون دولار تحت ذريعة تشجيع الإصلاحات داخل الوكالة الأممية، بحسب ما أعلنت حينها المتحدثة باسم وزارة الخارجية هيذر ناويرت، وكذلك من أجل الضغط على دول أخرى لتغطية ميزانية الأونروا التي تقدم خدمات صحية وتعليمية واجتماعية لأكثر من 5 ملايين لاجئ في غزة والضفة الغربية والأردن ولبنان وسوريا.
ويبدو أن الأحلام المزعومة للإدارة الأميركية قد ذهبت أدراج الرياح، إذ أعلن المفوض العام للأونروا بيير كرينبول –الأسبوع الماضي– عن أن المنظمة جمعت أكثر من 238 مليون دولار من بلدان أخرى، بما فيها دول الخليج، في محاولة لسد العجز، مستدركاً بأن الوكالة تواجه نقصاً يزيد عن 200 مليون دولار.
وفيما تبدو المساعدات الأميركية للأونروا مجرد «قروش» بالنسبة إلى إمكانات الولايات المتحدة الهائلة، وتكاد تكون بقدر تكاليف مشاريع قصيرة الأمد في مدينة أميركية صغيرة، مثل تحديث شبكة الصرف الصحي في مدينة ديربورن مثلاً، تتكرس القناعة لدى المتابع بأن الهدف وراء إنهاء التمويل.. هو إعادة إنتاج الموقف الأميركي من مجمل القضية الفلسطينية، وهو موقف منحاز بالكامل لإسرائيل، ولا يقيم أي اعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني وحياة أبنائه، بشكل يعارض –بلا أدنى لبس– القيم الأميركية التي تدعو إلى العدالة واحترام حقوق الإنسان، والتي تتجاوزها الإدارة الأميركية باتخاذ مثل هذه القرارات المجحفة!
Leave a Reply