مريم شهاب
من خلال عملي لسنوات طويلة، في قسم الصحة العامة وفي قسم الإسكان العام التابعين لبلدية ديربورن، لاحظت أن قدرة المرأة على المحبة والحنان والتحمّل تفوق بكثير، قدرة الرجل، خاصة إذا كان في العائلة ولد مريض أو لديه احتياجات خاصة تجعله غير قادر على ممارسة أي عمل أو القيام بأبسط الأمور اليومية للاعتناء بنفسه.
من خلال خبرتي مع هذا النوع من الحالات، لاحظت أن الولد من هؤلاء، يعيش ويستمر في الحياة يوماً بعد يوم، مستمداً القدرة على الابتسام والأمل، بقوة ومحبة قلب كبير، هو قلب الأم.
للأسف، في بعض حالات الإعاقة الشديدة، نفسياً أو جسدياً، يتمنى بعض الآباء الموت للولد المعاق أو وضعه في مصحة ليعيش منفياً منبوذاً، حتى لا ينغِّص عليهم رفاهية حب الذات، وتعرفت أيضاً على حالات طلاق أو انفصال بين الأزواج، تصرّ فيها الأم على الاحتفاظ بولدها المعوق على عكس ما يتمناه الأب.
هؤلاء الأمهات، وهنَّ كثيرات، تتعبَّدن حباً وخدمة لأبنائهنّ المعوقين. لا يتذمرنّ من تعب لا ينتهي في الاعتناء بهم، بل يستمدّن قدراتهن اللامتناهية على التضحية والعطاء من قدرة الله سبحانه، لا يساومن في مهمتهن الأساسية والجوهرية في الحياة، وهي أن يكنّ أمهات.
هن يملكن أكبر قوة مشرَّفة في الكون، قوة الصدر المحب، قوة قلب الأم، التي تركها رجلها لاهثاً وراء نزواته وأنانيته. لمثل هؤلاء الأمهات، أمهات ذوي الاحتياجات الخاصة ننحني احتراماً وتقديراً. عيد الأم يليق بكنّ!
***
من خلال عملي أيضاً، لاحظت كم يعاني بعض الأمهات المقيمات في شقق المباني العامة الحكوميّة. سيدات وقورات، ترى في وجوهن –إن تأملتهن– أمك وجدتك وعمتك وخالتك… تلمح في أعينهنّ حزناً وضياعاً وحرقة.
حزنٌ، ربما على غياب شريك العمر. ضياعٌ مثل سراب البيوت البعيدة التي نشأن وكبرن فيها، ولن يرَونها مرة أخرى. حرقةٌ على تعب العمر في الحقول والكروم التي حرصن على ألا يفرطن بها يوماً لتبقى إرثاً للأولاد والأحفاد الذين تناثروا في بلاد الله الواسعة، وبقيت الأرض يابسة مهجورة مثل أمهاتهن في المساكن العامة.
هؤلاء الأمهات، يعاتبن الزمن الذي اقتلعهنّ من فضاء الدار وشمس الحقل ورماهنّ في غياهب الشقق الكئيبة الضيّقة، حيث يحاصرهن الاكتئاب والمرض وعلب الدواء وهن ينتظر فرج الموت ببطء.
أيامهن تمضي بدوامة الفراغ، بلا لون ولا طعم سوى مرارة الغربة والوحدة والإهمال، بانتظار مساعدات الضمان الاجتماعي في آخر الشهر. وما نفع المال للسجين؟
لهؤلاء الأمهات الصبورات، نقول عيد الأم لكنّ والجنّة تحت أقدامكنّ، فاصبرن صبراً جميلاً.
***
يا دنيا يا غرامي يا دمعي يا ابتسامي
مهما زادت آلامي، قلبي يحبك يا دنيا
كلما حلَّ عيد الأم، أسمع صوت المرحومة أمي، وهي تردد هذه الأغنية في أرجاء بيتٍ بعيد. كان صوتها جميلاً مثل عينيها الخضراوين. كنت صغيرة لا أفهم معنى تلك الكلمات.
غابت أمي، وعندما كبرت أحببت أغاني محمد عبد الوهاب وفي مرة سمعته وهو يغني في أحد أفلامه: «أيها الراقدون تحت التراب»، وحين انتهى الفيلم، خالجني شعور بأن كل المشاهدين عيونهم تدمع، وكأن جميعهم يبكون أمّاً لن تعود.
Leave a Reply