نبيل هيثم
كل المؤشرات تشي بأن الاتفاق النووي آت لا محال.
وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف كان بدا واثقاً حين قال لصحيفة «در شبيغل» الالمانية ان الاتفاق النووي «مرجح واكثر من ممكن» فـي شهر تموز المقبل، فـيما كانت أجهزة وزارته تعد العدّة لنقل مكتب رعاية المصالح الأميركية إلى وسط طهران، فـي مؤشر واضح على استعداد الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية لإستئناف العلاقات الديبلوماسية، غداة ابرام الإتفاق وتبادل وثائقه، لتطوى صفحة من العداء استمرت منذ العام 1979.
مؤشر آخر خرج من إحدى قاعات كامب ديفـيد إلى إحدى حدائق هذا المنتجع الفاره بجماله، خلال مؤتمر صحافـي جمع الرئيس باراك أوباما بأمراء الخليج – لا ملوكهم – وكان ممكناً فـيه النظر إلى الاختلافات الجوهرية بين الطرفـين الاميركي والخليجي بين سطور التصريحات الديبلوماسية والابتسامات المصطنعة.
ولا شك ان غياب الملك سلمان عن اجتماع كامب
ديفـيد، الذي إقتصر حضور الصف الأول الخليجي فـيه
على امير الكويت صباح الأحمد الصباح وأمير قطر تميم بن حمد، كان مؤشراً على أن الأمور بين الحليفـين التاريخيين وصلت إلى مستوى الخلاف، بعدما تبيّن للقصر الملكي ان آخر ما يمكن ان يفكر فـيه اوباما قبل عام ونيّف على انتهاء ولايته، هو التضحية بالإتفاق النووي الإيراني – وهو لا شك إنجاز سيضاف إلى سجله حين يُكتب التاريخ – ارضاءً لنزوات عدائية فـي مملكة نفطية يبدو انها اختارت السير فـي وجهة معاكسة لحركة التاريخ، بعدما كبّلت نفسها بارهاصات المؤسسة الدينية الوهابية.
وليس من قبيل المبالغة القول ان ثمة تقاطعات مثيرة للانتباه اليوم بين السعودية واسرائيل، اذ انهما يكادان يكونان الطرفـين الوحيدين اللذين التقيا على هدف إجهاض الإتفاق النووى، وهو امر لا يمكن النظر اليه سوى من جانب واحد: «مملكة اوليغارشية» تزداد محافظة، ودولة عنصرية تزداد يمينية!
ومن هنا لم تكن صدفة ان تدخل اسرائيل قبل أسابيع مباشرة على خط الصراع الدائر فـي سوريا، عبر استباقها المعركة الوجودية التي يخوضها «حزب الله» والجيش السوري فـي القلمون، ضد الجماعات التكفـيرية المدعومة من السعودية وقطر، وذلك من خلال غارات جوية على هذه المنطقة الحساسة بالذات، ومن دون اي مبرر عسكري، سوى توجيه رسائل بالنار، قبل انطلاق عمليات تحرير الجرود.
وكذلك، لم تكن صدفة ان اختار تنظيم «الدولة الاسلامية فـي العراق والشام» (داعش) ان يطلق غزوتين، اسقط فـي احداهما مدينة الرمادي فـي العراق وفـي الثانية مدينة تدمر فـي سوريا، وبينهما معبر التنف – الوليد الحدودي بين البلدين، فـي تحرك عسكري يبدو هدفه واضحاً لجهة سعي التكفـيريين وداعميهم ربط بادية الشام بأنبار العراق، بتشجيع خليجي – سواء مباشر او غير مباشر – تنفـيذاً لمخطط تقسيمي تتضح معالمه يوماً بعد يوم، وربما تكون اجتماعات كامب ديفـيد بمثابة اشارة الضوء الاخضر لانطلاقته، اذا ما ربطنا بين تاريخ انعقاد هذا المؤتمر وما تلاه من تطوّرات ميدانية بين سوريا والعراق.
ولعل اختيار الرئيس باراك اوباما كامب ديفـيد مقرّاً لعقد اجتماعه مع القادة الخليجيين – من الصفـين الاول والثاني – كان ذا دلالة قصوى، فالمنتجع الشهير هو نفسه الذي شهد توقيع اتفاق السلام بين مصر واسرائيل، والذي شكل منعطفاً فـي خريطة العلاقات العربية والدولية منذ اواخر السبعينات، وعليه جرت التموضعات السياسية، وانطلاقاً منه اخذت الامور فـي الوطن العربي تميل اكثر فأكثر نحو التفرّد والانقسامات.. والحروب.
وربما تمثل عودة الحديث عن تقسيم المشرق العربي، تحت مسمّيات مختلفة، كلمة السر لفهم الاندفاعة المتعددة الاطراف لتغيير الوقائع الميدانية والسياسية، مع بدء العد العكسي لتوقيع الاتفاق النهائي.
ولا يدور الحديث هنا عن رأي نظري، او سيناريو تخيلي، طالما ان تصريحات الكثير من المسؤولين قد باتت تتناوله وطالما ان الاوضاع على ارض التقسيم المخطط له تسير على هذا النحو.
ومن هنا كان ملفتاً التحذير الصريح الذي اطلقه وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس بشأن احتمالات التقسيم، حين قال، امام النواب الفرنسيين، انه «فـي العراق كما فـي سوريا يجب أن يتم تعزيز التحرك الدولي وإلا سنتجه صوب تقسيم أحد البلدين أو كليهما وارتكاب المزيد من المجازر والعواقب الكارثية».
واذا كان فابيوس قد تحدّث فـي العموميات، حين تطرق إلى مخاطر التقسيم، فإن صوتاً خرج من تركيا كان اكثر ايضاحاً فـي الحديث عن هذا السيناريو، الذي يحوم شبحه فوق سماء المشرق العربي، حيث كان ملفتاً قول نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قورطولموش، خلال لقاء مع وفد صحافـي عربي واجنبي، من ان منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تقسيم جديد كتقسيم اتفاقية «سايكس بيكو»، التي رسمت بالمساطر حدود الدول بعد الحرب العالمية الأولى قبل نحو مئة عام، على حد تعبيره. لا بل ان المسؤول التركي ذهب اكثر تفصيلاً فـي الشرح، حين قال إن «الحدود التي كانت مرسومة بين الدول لم تكن لها خلفـية تاريخية»، وإن «العراق حالياً ينقسم إلى ثلاثة اقسام، وليبيا إلى قسمين، واليمن كذلك، ومصر سياسياً مقسمة إلى قسمين، وسوريا إلى عشرات الأجزاء، فـيما الجزائر وتونس حاليا مستقرة نسبيا».
وتأتي التطورات الاخيرة على ارض الواقع لتؤكد ان ما تشهده ميادين القتال لا يمكن فصله عن الترتيبات التي تندفع كل الاطراف لتحقيقها، قبل ان تفرض التسوية النووية معادلتها وايقاعها على الاحداث المستقبلية.
ولا بد هنا من الربط بين سقوط الانبار وتدمر فـي ايدي تنظيم «داعش» من جهة، وبين الحراك السري والعلني لتشكيل كيان للسنّة قد لا تقتصر رقعته على العراق، تحت مسمّى تسليح العشائر للمشاركة فـي القتال ضد «داعش».
ولعل المفارقة الغريبة هنا تكمن فـي انخراط الولايات المتحدة مباشرة فـي تدعيم أسس هذا الكيان السني، وقبله الكيان الكردي، برغم أن مصلحتها تقتضي تهدئة الاوضاع مع ايران تحديداً قبل اتمام الاتفاق النووي.
وكان ملفتاً الاسبوع الماضي استضافة واشنطن بعض دعاة الفدرلة فـي العراق، امثال اثيل النجيفـي ورافع العيساوي، اللذين راحا يدافعان عن خيار الاقاليم من دون حرج، وكما لم يحدث من قبل.
علاوة على ذلك، فقد صار الحديث يدور علناً عن تسليح عشائر سوريا والعراق، سواء مباشرة عبر الولايات المتحدة او من خلال الوسيط الاردني، فـي وقت كان ملفتاً اقرار مجلس النواب الاميركي قانوناً لتسليح الاكراد والسنّة العراقيين مع اشتراط التعامل معهم كما لو انهم «دول»! وهنا يبقى السؤال: طالما ان الولايات المتحدة ذاهبة لا محال نحو الاتفاق مع ايران، فلماذا تخاطر باثارة غضب الجمهورية الاسلامية بدعمها لمخططات التقسيم والفتنة هنا وهناك؟
الاجابة قد تكون فـي كامب ديفـيد، اذ يبدو واضحاً من مجريات الاحداث ان الادارة الاميركية تحاول تحقيق كافة المكاسب، سواء فـي سوريا او العراق، قبل ان يدخل فريقا التفاوض الايراني والاميركي مجدداً إلى اروقة احد الفنادق، سواء فـي سويسرا أو المانيا او النمسا، ويوقعان امام الكاميرات المتسمّرة . واذا دل ذلك على شيء، فهو يشي بان المنطقة العربية مقبلة على تحولات دراماتيكية قد تكون خارجة عن الاطار السياسي العام الذي تسير فـي فلكه المفاوضات النووية، ما يعني ان الولايات المتحدة ستندفع بكل ما اوتيت من قوات لتحقيق اعلى المكاسب على الارض، وارضاء الحلفاء الخليجيين المتوجسين من التفاهم النووي.
كل ذلك يؤكد ان الولايات المتحدة والخليجيين سيعمدون خلال ما تبقى من مهلة التفاوض النووي إلى تسعير الحملة التقسيمية فـي المنطقة العربية.
ولكن كما ان لكل حرب مقاوميها، فإن المعركة هذه لا تشذ عن القاعدة. وثمة انتصار ميداني حققه «حزب الله» فـي القلمون وثمة «حشد شعبي» يستعد لتحرير الانبار. وبين مخططات التقسيم وجهود مناهضتها، تبقى الحرب سجالاً، وعلى الارجح ان الشهرين المقبلين سيشهدان مزيداً من التصعيد فـي الميدان، ليصل هذا التصعيد إلى نقطة الذروة مع اقتراب التوقيع على الاتفاق النهائي.
هي «حرب وجودية» كما قال الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله خلال خطاب عيد التحرير.
بعد مئة عام على «سايكس بيكو» يعاد رسم خرائط المنطقة العربية ليُقسّم المقسّم ويُجزأ المجزأ، فـي وقت تبقى القدرة على الصمود فـي وجه عاصفة الموت الـ«داعشي» و«النصروي» اساس كل مقاومة لاسقاط «سايكس بيكو – 2»، وحماية كل مكونات المشرق العربي من الاندثار.
أبرز ما تضمنه بيان «كامب ديفيد»
– جدد القادة التزامهم المشترك إلى شراكة استراتيجية بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي لبناء علاقات أوثق فـي كافة المجالات، بما فـي ذلك الدفاع والتعاون الأمني، ووضع منهج تعاون للقضايا الإقليمية من أجل إحراز تقدم وفق مصلحة مشتركة فـي الاستقرار والازدهار.
– تجمع الولايات المتحدة مع شركائها فـي دول مجلس التعاون الخليجي مصلحة عميقة فـي منطقة سلمية ومزدهرة، ومصلحة حيوية فـي دعم استقلاله السياسي ووحدة أراضيه، فـي مأمن من العدوان الخارجي.
– التأكيد على سياسة الولايات المتحدة لاستخدام كل عناصر القوة لتأمين المصالح الأساسية لدينا فـي منطقة الخليج، وردع ومواجهة العدوان الخارجي ضد حلفائنا وشركائنا، كما فعلنا فـي حرب الخليج.
– كما هي الحال مع عملية «عاصفة الحزم» فإن دول مجلس التعاون الخليجي تتشاور مع الولايات المتحدة عندما تخطط لاتخاذ أي عمل عسكري خارج حدود دول مجلس التعاون الخليجي، وبإمكانها طلب المساعدة الأميركية لهذا الغرض.
– خلال اللقاء جرى استعراض وضع المفاوضات بين دول 5+1 وإيران، وأكد اللقاء أن الصفقة قابلة للتحقيق بشكل شامل يعالج تمامًا المخاوف الإقليمية والدولية بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهو فـي مصلحة أمن دول مجلس التعاون الخليجي وكذلك الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
– الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي تعارض نشاطات إيران لزعزعة الاستقرار فـي المنطقة وسوف تعمل معًا لمواجهتها.
تسليح السنّة والاكراد: إعادة إحياء مشروع بايدن
فـي مطلع ايار، أصدر مجلس النواب الأميركي قانوناً طرحه عضوه ماك ثورنبيري يفرض شروطاً لتخصيص مساعدات عسكرية أميركية للعراق بقيمة 715 مليون دولار من ميزانية الدفاع لعام 2016.
وينص القرار على تخصيص المبلغ المذكور للقوات المشاركة فـي القتال ضد تنظيم «داعش»، على أن يذهب 25 بالمئة منه مباشرة إلى قوات البيشمركة والقوات السنية.
ويشترط القرار صرف الـ75 بالمئة المتبقية بعد أن تقدم وزارتا الدفاع والخارجية ما يثبت التزام الحكومة العراقية بعملية المصالحة الوطنية، وفـي حال فشلتا فـي إثبات ذلك، يذهب 60 بالمئة من المبلغ المتبقي للقوات الكردية والسنية بشكل مباشر.
وفـي الجوهر لا يختلف مشروع القانون هذا كثيراً عن مشروع جو بايدن الذي طرحه فـي العام 2013، لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم «سنية وشيعية وكردية».
ويفرض مشروع القانون على الحكومة العراقية شروطاً مقابل تخصيص مساعدات بقيمة 715 مليون دولار من ميزانية البنتاغون لعام 2016، لدعم الجيش العراقي والقوات المرتبطة بالحكومة العراقية فـي المعركة ضد تنظيم «الدولة»؛ ويفرض عليها أن تعطي الحكومة الأقليات «غير الشيعية» دوراً فـي قيادة البلاد خلال ثلاثة أشهر بعد إقرار القانون، وأن توقف دعمها للمليشيات (الشيعية)، وإذا لم تلتزم بالشروط يجري تجميد 75% من المساعدات، ويرسل أكثر من 60 بالمئة، منها مباشرة للأكراد والسنة!
ولا شك ان هذا القانون يبدو صياغة تشريعية لافكار جو بايدن التقسيمية، التي عاد وعبّر عنها فـي مقال نشرته «واشنطن بوست» فـي آب العام 2014، حين جدد دعوته إلى تشكيل نظام فـيدرالي فعّال كوسيلة لتجاوز الانقسامات فـي العراق، معتبراً أن ذلك «سيؤمن تقاسماً عادلاً للعائدات بين الأقاليم، ويسمح بإقامة بنى أمنية متمركزة محلياً لحماية السكان فـي المدن، ومنع تمدد تنظيم الدولة الإسلامية».
Leave a Reply