نبيل هيثم – «صدى الوطن»
الحل السياسي ومكافحة الإرهاب في سوريا. عنوانان فضفاضان خرجت بهما القمة الرباعية، التي استضافتها اسطنبول الأسبوع الماضي، وجمعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
في الظاهر، لم يكن بالإمكان أن تعلو التوقعات بشأن القمة الرباعية التي بدأ الحديث عنها قبل نحو شهرين، فوق الإطار التقليدي للقمم المماثلة التي غالباً ما تُصاغ بياناتها الختامية بعبارات دبلوماسية ذات طابع عام، من قبيل «التمسك بسيادة واستقلال ووحدة أراضي سوريا» و«دعم الحل السياسي للأزمة السورية»، و«الالتزام بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة في جهود التسوية السياسية»، و«مواصلة العمل المشترك ضد الإرهاب»، فضلاً عن الشق الإنساني المرتبط بقضية اللاجئين.
لكن ثمة جديداً يمكن تلمّسه في قمة اسطنبول، سواء في الشق المعلن من نتائجها، أو في ما تشي به التحرّكات اللاحقة لاجتماع القادة الأربع.
الجوانب الجديدة تضمنها البيان الختامي نفسه، الذي أكسب روسيا تأييداً للكثير من التحركات التي قامت بها على الساحة السورية، من قبيل الإشارة في البيان الختامي، إلى ضرورة «القضاء التام» على تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» و«الأفراد والجماعات والتنظيمات التي لها صلة» بهذين التنظيمين الإرهابيين.
الأهم مما سبق، هو التأييد الأوروبي لمسار أستانا، من خلال الترحيب بالاتفاق الروسي–التركي حول استقرار الأوضاع في منطقة إدلب (اتفاق سوتشي) والمتعلق بسحب الأسلحة الثقيلة وإخراج الجماعات المتطرفة من المنطقة المنزوعة السلاح في هذه المحافظة السورية التي باتت منطقة التكدّس الأخيرة للإسلاميين المتشددين.
يشي ذلك، بأن ثمة توافقا ًعلى إنهاء الحرب السورية بين كافة الأطراف، خصوصاً بعدما نجحت روسيا، من خلال تدخلها العسكري المباشر في فرض قواعد جديدة للعبة لم يعد ممكناً تجاهلها من قبل الآخرين، بما في ذلك، الأميركيون الذين تغيّبوا عن قمة اسطنبول، ولكنّهم أيّدوا مخرجاتها بشكل مباشر، على النحو الذي صرّح به المبعوث الأميركي الخاص للشؤون السورية جيمس جيفري الذي قال إن القمة «مثلت خطوات كبيرة نحو الأمام» في سبيل إنهاء النزاع، قبل أن يضيف بشكل واضح: «نحن مسرورون جداً بنتائج قمة اسطنبول».
انعكاسات ميدانية
يعكس هذا الاتجاه توافقاً، ربما بدأت تلوح نتائجه في الميدان، فبشكل متزامن تحرّكت جبهتا إدلب وشرق الفرات مجدداً. ففي الأولى، يبدو واضحاً أن ثمة قراراً بتسريع تنفيذ تفاهمات سوتشي بين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين الذي أقرّ قبل أسبوعين بأنّ الترتيبات الميدانية في إدلب لم تتحقق حتى الآن، ولكنه أشار في المقابل إلى أن الأتراك يقومون بكل ما في وسعهم لإنجاز ما تم الاتفاق بشأنه. ومن هنا، فإنّ الاشتباكات التي بدأت تشهدها إدلب بعد انتهاء القمة الرباعية، قد تكون مؤشراً على أن الأمور تمضي في الطريق المرسوم.
أما في شرق الفرات، فقد كان ملفتاً أن الأتراك بدأوا بالفعل التمهيد الناري لعملية عسكرية، يتحدث عنها الأكراد حالياً، في تلك المنطقة الخاضعة للنفوذ الأميركي، والتي تستهدف بشكل مباشر «وحدات الحماية الكردية»، المدعومة أميركياً، وهو أمر يجري، على ما يبدو ضمن غطاء سياسي دولي يمكن رصده في ما تضمنه البيان الختامي من إشارة إلى «رفض النزعات الإنفصالية التي تهدد وحدة سوريا»، وهو بند يتجاوز مجرّد الإرضاء الكلامي لتركيا، المتوجسة من تنامي «الكانتون» الكردي على حدودها الجنوبية.
على هذا الأساس، يتجه الوضع في شرق الفرات إلى مزيد من التصعيد بين الأتراك والأكراد، وهو ما يشي بتقارب أميركي تركي حول ملف منبج وغيرها من الملفات المتعلقة بمناطق سيطرة «وحدات حماية الشعب»، وهو أمر سيتأكد على المدى المنظور من خلال التحركات العسكرية المحتملة، خصوصاً تلك المرتبطة بالقوات العسكرية لقوات التحالف الدولي المتواجدة في تلك المنطقة، إذ أنّ بوادر أية عملية عسكرية تركية صريحة هناك ستكون ببدء سحب تلك القواعد، وسيتضح حينها ما إذا كانت هناك صفقة شاملة.
الحل السياسي
أما في الشق السياسي المباشر، فقد كان ملفتاً للانتباه ما تضمنه البيان الختامي لقمة اسطنبول من دعوة مشتركة إلى تشكيل لجنة صياغة الدستور السوري الجديد «قبل نهاية العام 2018»، بهدف «تحقيق الإصلاح الدستوري وتهيئة الأرضية لانتخابات حرة ونزيهة برعاية أممية يشارك فيها جميع السوريين بمن فيهم المغتربون»، بجانب «التأكيد على أهمية تهيئة الظروف المناسبة في عموم سوريا للعودة الآمنة والطوعية للنازحين واللاجئين إلى أماكنهم الأصلية، وحماية العائدين من الزج بهم في صراع مسلح، ومن الاضطهاد السياسي أو الاعتقال التعسفي وتوفير البنية التحتية للعائدين».
وإذا كان التوافق على الترتيبات العسكرية أمراً ممكناً، خصوصاً أن هذه الترتيبات تبقى تمهيدية للحل السياسي، فإنّ تفاصيل التسوية المحتملة ستكون، بلا أدنى شك، عنوان الصراع السياسي بين اللاعبين خلال الفترة المقبلة.
ولعلّ الحديث عن «اللجنة الدستورية» يثير تساؤلات بشأن طبيعة النظام السياسي الجديد في سوريا، الذي سيضمن التسوية السياسية.
وفي هذا الإطار، يبدو واضحاً حجم التباين الهائل في المواقف بين الأطراف الخارجية الفاعلة على الساحة السورية، على نحو معاكس للعبارات التجميلية التي تضمنها البيان الختامي لقمة اسطنبول.
وبالنسبة إلى روسيا، تبدو الوجهة العامة للنظام السياسي مطابقة إلى حد كبير للمقاربة الرسمية السورية القائلة بوحدة الأراضي السورية، ما قاد يؤدي إلى تغيير في المقاربة السابقة المقترحة من قبل الروس، والمتصلة بإمكانية تطبيق النموذج الفدرالي.
هذا الأمر، يتعارض بطبيعة الحال مع المقاربة التركية التي تمانع فكرة الكانتونات، حين يتعلق الأمر بالأكراد، ولكنها تسعى إليها لأهداف لم تعد خافية على أحد، وهي تأمين نفوذ مباشر في الشمال السوري.
ويبدو أن تركيا تحاول بذلك استنساخ التجربة القبرصية حين يتعلق الأمر بإدلب وشمال سوريا، من خلال جعل عملية «غصن الزيتون» تكراراً لعملية «السلام من أجل قبرص» في العام 1974، التي كانت تهدف بوضوح إلى ضم شمال الجزيرة، بضوء أخضر من الولايات المتحدة.
أما فرنسا، فيبدو أنها لم تتخل بعد عن «كاتالوغات» حقبة الانتداب (الاستعمار). وبالرغم من غموض موقفها، إلا أنها تسعى من دون أدنى شك إلى الاستحواذ على حصة من الكعكة السورية، من خلال تطبيق التجربة اللبنانية التي تضمن لها ولاءات محلية، في حين تبدو ألمانيا في مكان آخر، حين يتعلق الأمر بـ«الهم السوري»، الذي بات مقتصراً عند المستشارة أنجيلا ميركل على احتواء التداعيات المتصلة باللاجئين السوريين، ومعالجة الأمر من خلال مقاربة خاصة، تزاوح بين حاجة عملاق التصنيع في أوروبا إلى اليد العاملة وبين الرغبة في عدم تحمّل الأعباء الأمنية والاجتماعية والاقتصادية –وحالياً السياسية– لأزمة اللجوء السوري.
في موازاة كل هذه الأجندات، تبقى الأجندة الأميركية الأكثر غموضاً وإثارةً للتساؤلات، فغياب الولايات المتحدة عن قمة اسطنبول وتأييدها لمقرراتها في آنٍ واحد، يشي بأن الأمور ماضية باتجاه الانسحاب من هذا الملف، وفق ما ألمح دونالد ترامب في أكثر من مناسبة، قبل انتخابه رئيساً وبعد ذلك. وإذا ما تأكدت الصفقة الأميركية–التركية حول شرق الفرات، تكون الولايات المتحدة قد بدأت بالفعل عملية فك الارتباط مع الملف السوري. ولكنّ هذا الأمر لا يمكن، بلغة المنطق، أن يتم من دون ثمن سياسي يدفعه أحدهم… وقد يكون اللغز المرتبط بهذا الثمن موازياً للغز مقتل جمال خاشقجي، الذي بات مؤكداً أنه يتجاوز مجرّد تصفية صحافي «معارض».
Leave a Reply