ثمة سؤال يحضر الى مخيلة الباحثين والمحللين عن سبب غياب الرئيس الايراني من القمة الثلاثية التي جمعت الأسبوع الماضي الرئيس السوري ورئيس الوزراء التركي وأمير قطر في مدينة اسطنبول. لكن فحوى البيان الختامي للقمة الثلاثية الذي تضمن نصيحة غير مباشرة لإيران بالسعي الى التوصل الى اتفاق دولي حول ملفها النووي العالق مع الغرب “لكي لا يزداد الوضع خطورة” تقدم اجابة منطقية عن سبب ذلك الغياب.
فقمة اسطنبول ليست، ولم تكن مصممة لتكون، على شاكلة قمة دمشق التي جمعت الرئيسين السوري والايراني وأمين عام “حزب الله” اللبناني. ومقارنة بسيطة بين القمتين تظهر كم أن المنطقة تعيش في مرحلة رمادية وتحكم مواقف قادتها مصالح دقيقة وحساسة ومتناقضة في الكثير من أبعادها.
من السهل الاسترسال في تحميل الموقفين السوري والتركي، فضلا عن القطري، أكثر بكثير مما لقادة هذه البلدان قدرة على تحمله.
لكن ليس عبثاً أن تكون الفقرة الأبرز والأكثر اثارة للتحليل في بيان القمة الأخيرة، هي تلك التي تتوجه الى ايران بصيغة التمني الذي يخفي خوفا كبيرا لدى أقطاب القمة من النوايا الاسرائيلية والأميركية، رغم سذاجة التحليل عن خلاف “استراتيجي” بين حكومتي نتنياهو وادارة الرئيس أوباما.
وتبدو حكومة العدالة والتنمية التركية كـ”أم العروس” في هذه الآونة، وسط تعويل أميركي–غربي، وعربي وايراني واسرائيلي على دور رئيسها أردوغان في اخراج سيناريو اقليمي يبعد شبح الانفجار الذي يلوح بوضوح في قوس الأزمات من طهران الى بغداد وبيروت والأراضي الفلسطينية المحتلة.
تبدو خشبة المسرح التركي جاهزة على مدار الساعة لتحضير “البروفات” واجراءات التمرينات السياسية والدبلوماسية فتحتضن لقاءات مع الروس والايرانيين ثم مع السوريين والقطريين، وكان قد سبقهم الاسرائيليون، الذين لولا وازع من إحراج لطلب رئيسهم الصهيوني العجوز شمعون بيريز الانضمام الى القمة الثلاثية الأخيرة، لكنه سابق الساعات وطار الى العاصمة الروسية لتكليف رئيسها بنقل رسالة “نصح” أخيرة الى الرئيس السوري تحذره من مغبة الركون الى النصائح الإيرانية، التي ترى اسرائيل أنها تهدف إلى “تضليل” القيادة السورية حول النوايا الحربية الإسرائيلية، ودفعها الى التورط في خطوات غير محسوبة بدقة. واللافت أن هجمة “المودة” الاسرائيلية التي شارك فيها أيضا بنيامين نتنياهو من على منصة مناورات عسكرية في هضبة الجولان السورية المحتلة مطمئنا بأن لا نوايا لدى حكومته بشن حرب على سوريا أو “حزب الله”.. هذه الهجمة أعقبت حملة من التهويل قادتها المؤسستان السياسية والأمنية في اسرائيل ومعهما الادارة الأميركية حول تزويد دمشق “حزب الله” بصواريخ متطورة وبعيدة المدى من طراز “سكود”، لم تصمت أصداؤها حتى الآن. والواضح أن تكتيكي الترهيب تارة والترغيب طورا اللذين يمارسهما قادة اسرائيل يقعان ضمن استراتيجية واحدة تهدف الى ابعاد نظام دمشق عن حليفه الايراني.
وإذا كان من المبكر ادراج قمة اسطنبول في سياق تراجعي لسياسة الممانعة السورية، الا أن لهجة القمة في تشديدها “على دعم كل الجهود لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة وإدانة كل المواقف التي تؤدي إلى تصاعد التوتر” يتناقض إلى حد بعيد مع لهجة قمة دمشق التي رأت في المقاومة الطريقة الوحيدة التي تفهمها اسرائيل ورفعت شعارات فيها الكثير من التحدي للمشروع الأميركي لحل أزمات المنطقة.
واذا تم النظر الى المشاركة القطرية في قمة اسطنبول، ربطا بالموقف الذي أعلنه رئيس وزراء الإمارة في بيروت، ومن منزلي رئيس مجلس النواب اللبناني، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط عن أن وحدة اللبنانيين تبقى أهم من أي سلاح يمتلكونه في مواجهة اسرائيل، يمكن القول أن مفاعيل قمة اسطنبول جاءت لتخصيب مفاعيل قمة دمشق بمواقف سياسية أكثر عقلانية وجنوح نحو التهدئة التي تتيح اعادة تحريك المفاوضات على الجبهتين السورية والفلسطينية، بصورة غير مباشرة عبر الوسيط التركي ومهمة المبعوث الأميركي إلى المنطقة جورج ميتشل.
ولقد بدا بيان قمة اسطنبول مرتكزا الى نبرة سياسية معتدلة أكدت سوريا وفقها على رغبتها في استعادة الوساطة التركية في عملية التفاوض، رغم اقتناعها بعدم جدوى هذه العملية مع حكومة اليمين المتطرف التي تحكم اسرائيل حاليا والتي لا تمتلك الاستعداد للسلام، وهذه حقيقة يعرفها الأتراك مثلما يدركها الأوروبيون.
ويستفاد من عجقة القمم التي تشهدها المنطقة والتي تبرز في مقدمها الزيارة التاريخية غير المسبوقة لرئيس روسي الى العاصمة السورية، مع “رسالة سلام” اسرائيلية، أن ثمة تبلوراً لأجواء دولية واقليمية خالية من قرع طبول الحرب، ولتحريك الجمود المخيف في عملية التفاوض الذي كان ينذر بالانزلاق الى حرب شاملة حتى أسابيع قليلة، الا أن تهيب خوض هذه الحرب لدى كل الأطراف، وادراكها لأهوالها ومفاعليها الكارثية على المنطقة برمتها، أسهم في لجم الاندفاعة نحوها وان لم تعدم مسبباتها التي يمكن أن تحضر في كل لحظة، في منطقة شديدة التوتر وتشكل ملتقى مصالح حيوية للكبار.
ثمة موجة من العقلنة هبطت على قادة المنطقة بعدما استنفدت موجة المواجهات الكلامية بينهم أغراضها ووصلت الرسائل المتبادلة الى أماكنها، وكان أبرزها (وليس آخرها؟) موجة التفجيرات الدموية التي ضربت العراق من أقصى شماله الى أقصى جنوبه.
والأرجح أن ما تبقى من هذا العام سيشهد المزيد من التفجيرات المتنقلة، لكن أيضا مزيدا من التبلور لخيارات دولية واقليمية لتقرير مصير أكثر من أزمة، بعدما بات ترف اللعب في الوقت الضائع غير متاح بصورة غير مسبوقة في تاريخ أزمات المنطقة، وأطراف الصراع يبدون مقبلين على حسم خياراتهم سلما أو حربا في عاجل الأسابيع والأشهر.
Leave a Reply