وليد مرمر – لندن
عندما عيّن دونالد ترامب صهره جاريد كوشنير الذي لم يكن يملك أية خبرة في العمل السياسي كمسؤول لملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ادعى، من غير بينة، أن كوشنير (اليهودي) هو أفضل من بإمكانه إيجاد حل دائم لهذا الصراع. وبعد أربع سنوات تمكن كوشنير من أن يكون عراب أربع اتفاقيات سلام بين إسرائيل ودول عربية لم تكن أساساً في حالة حرب مع إسرائيل. أما فيما خص الفلسطينيين فإن إدارة ترامب كانت أكثر الإدارات قاطبة وقاحة في انحيازها العلني إلى إسرائيل على حساب الحقوق العربية، وذلك عندما قامت بنقل سفارتها إلى القدس ثم عبر الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، ضاربة بعرض الحائط التشريعات والقوانين الدولية ومقررات الأمم المتحدة.
ولأن «إصلاح ذات البين خير من كافة الصلاة والصيام»، قرر مستر كوشنير أن تكون خاتمة إنجازاته مِسكاً خليجياً يتوج به مآثره السياسية، فكانت المصالحة السعودية–القطرية في قمة العلا قبل أيام.
نعم إنها مصالحة سعودية–قطرية وليست خليجية–قطرية أو عربية–قطرية، إذ أن تغيب محمد بن زايد وعبد الفتاح السيسي طرح تساؤلات مشروعة حول مدى موافقة مصر والإمارات على هذه المصالحة التي يبدو أنها ليست إلا تنظيماً للخلاف في حدوده الدنيا بين الرياض والدوحة.
اختتمت القمة الخليجية الـ41 التي عقدت في «العلا» شمال غرب السعودية والتي جلس كوشنير كالطاووس في وسطها، بإصدار بيان ختامي مطول من 117 بنداً، وإعلان حمل اسم «إعلان العلا».
وبغض النظر عن معزوفة القرارات المجترة، من قبيل «تنسيق المواقف السياسية» و«تعزيز دور مجلس التعاون في مكافحة الإرهاب» و«توطيد العلاقات» و«التصدي لدور إيران» وغيرها من الكليشيهات المملة، استوقفتني البنود التالية:
– أولاً: «أشاد قادة دول الخليج بجهود التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في ملاحقة قيادات ما يُسمى بتنظيم داعش الإرهابي، الذي عمل على تشويه الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين مؤكدين استمرار دول المجلس في جهودها الحثيثة مع حلفائها في محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه والتصدي للفكر الإرهابي».
إنها لمحاضرة المومس بالعفة! حيث يكاد لا يختلف اثنان أن منبع الفكر الإرهابي التكفيري من «القاعدة» وحتى «داعش» ليس إلا الفكر الوهابي السعودي المتجذر في التفسير المؤدلج لتراث أحمد بن حنبل وابن حجر وابن القيم الجوزية وابن تيمية وغيرهم. ثم ألم يبشرنا باراك أوباما بأن داعش سيبقى لعقود ولن يتم القضاء عليه بسهولة! ولكن لله رجال إذا أرادوا أراد! رجال كسليماني والمهندس اللذين «هندسا» القضاء الفعلي على داعش في غضون سنوات قليلة، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان فيما كان الغرب يصدّر «دواعشه» بالآلاف إلى المنطقة وفيما كانت الدول الخليجية تقوم بتمويل هذا الإرهاب.
أما الآن وقد تم أو كاد يتم القضاء على «داعش» فإن لسان حال تلكم الدول المتواطئة ليس إلا كقول الشاعر: «وكلٌ يدّعي وصلاً بليلى… وليلى لا تقر لهم وصلا»! وعلى الشاك في هذا الأمر أن يسأل فلول المنهزمين في الموصل وحلب والقلمون وعندها سيعلم الخبر اليقين عن الذين آزروا ودعموا وساعدوا، مقابل الذين حاربو وضحوا وحرروا!
– ثانياً: «رحب البيان الختامي لقمة العلا بقرار الولايات المتحدة الأميركية بتصنيف ما يسمى بـ«سرايا الأشتر» و«سرايا المختار» الإرهابية في مملكة البحرين والمدعومتين من إيران كمنظمات إرهابية، مما يعكس الالتزام بالتصدي للإرهاب وداعميه والمحرضين عليه».
حقاً، إن لم تستح فقُل ما شئت!
فمن الأمور التي لا يختلف عليها اثنان أيضاً، أن ثورة البحرين، وبالقدر المتيقن، هي ثورة سلمية لم تشهر أي نوع من الأسلحة بما فيها الأسلحة البيضاء. فلِمَ يُراد وسم القائمين على هذه الثورة بالإرهاب! ثم أوليس الأَولى أن توضع مئات بل آلاف التنظيمات التي دمرت سوريا وعاثت فيها فساداً، وبكل أنواع الأسلحة، على قائمة الإرهاب؟ ولو سلمنا جدلاً بأن ما جرى في سوريا كان ثورة، وفرض المحال ليس بمحال، ما الذي يميزه إذن عن ثورة البحرين؟ ولماذا الكيل بمكيالين؟ أم أن «ثوار» سوريا هم أبناء سيدة و«ثوار» البحرين أبناء جارية؟ ثم ما الضير إن كانت هاتان المجموعتان فعلاً مدعومتين من إيران كدأب دول الخليج في دعمها لثوارها المزعومين في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها! ولماذا يتم التركيز دائماً من قبل بعض دول الخليج على شيطنة إيران واتهامها بزعزعة استقرار الدول؟ بل يكاد إعلام هذه الدول والقائمين عليه لا يذكر إيران إلا ويصفها بـ«الدولة الصفوية» و«المجوسية» و«الرافضة»، بينما لا توفر إيران جهداً في مد يد الإخاء والتعاون لدول الخليج لدرجة عرضها على هذه الدول اتفاقات أمن ودفاع مشترك ضُرب بها عرض الحائط مراراً من قبل السعودية وحلفائها!
– ثالثاً: «أشادت قمة العلا بقرارات الدول التي صنفت حزب الله كمنظمة إرهابية، في خطوة مهمة تعكس حرص المجتمع الدولي على أهمية التصدي لكل أشكال الإرهاب وتنظيماته على المستويين الدولي والإقليمي، وحث الدول الصديقة لاتخاذ مثل هذه الخطوات للتصدي للإرهاب وتجفيف منابع تمويله».
يكاد يخرس اللسان لدى الرد على هذا البند! ولن أمحص حيثيات هذا القرار فإنه كاشف عن نفسه. والأمور البديهية تصبح غامضة لو حاولت تعريفها أو شرحها. لذا سأكتفي باستذكار قول شاعرنا المتنبي: «وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل».
ولكن ثمة مسألة ينبغي التوقف عندها على صلة في هذا الموضوع. فقد صرح رئيس سلاح الجو في الحرس الثوري الإيراني الأسبوع الماضي أن الصواريخ الموجودة في غزة ولبنان كانت قد صدرت من إيران، وهي الخط الأمامي لمواجهة إسرائيل. وبرغم أن هذا التصريح لم يأت بجديد يذكر، ورغم أنه لم يصدر من المسؤولين السياسيين بل من جنرال في الحرس أبدى برأيه وهو غير ملزم للسياسة الخارجية الإيرانية، برغم ذلك فقد قامت قيامة متكلمي «محور السيادة» في لبنان متهمين إيران بالتدخل في الشأن اللبناني وباستعمال لبنان كمطية لمآربها ومخططاتها. فهل سيتجرأ أحد من «السياديين» في لبنان على الإعلان بأن الحزب المذكور هو حزب لبناني ممثل في البرلمان والحكومة، وأن التحريض عليه من قبل دول عربية هو تهديد للسلم الأهلي وتدخل سافر في الشأن اللبناني الداخلي؟ أم أنهم سيبلعون ألسنتهم ويصابون بالبكم لئلا يغضب عليهم أولياء نعمتهم؟
– رابعاً وأخيراً: وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أكد البيان الختامي «مواقف دول المجلس الثابتة من القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب والمسلمين الأولى، ودعمها للسيادة الدائمة للشعب الفلسطيني على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ يونيو 1967، وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حقوق اللاجئين، وفق مبادرة السلام العربية والمرجعيات الدولية وقرارات الشرعية الدولية».
وهذا لعمري هو العجب العجاب! فالقرار آنف الذكر يشدد على مواقف دول المجلس «الثابتة» من القضية الفلسطينية! فلو كان مصداق «الثبوت» هو هذا الانبطاح المجاني والاصطفاف المخزي في عداد دول التطبيع فما هو تعريف الانهزام برأي هذه الدول إذن؟
لقد قررت الدول العربية في قمة بيروت، مبدأ الأرض مقابل السلام، أي التطبيع مقابل العودة لحدود الخامس من يونيو 1967. ثم جاءت إدارة ترامب وطوَّبت القدس لإسرائيل ثم أهدتها الجولان لترسخ معادلة أن لا رجوع البتة إلى حدود 1967. ورغم ذلك، لم تستدعِ دولة عربية واحدة سفير الولايات المتحدة لتسائله عن هذا الإجراء العدواني، بل هرول بعض تلك الدول نحو التطبيع المجاني حتى أن مسؤولي الإمارات كانوا يتشدقون لدى توقيعهم معاهدة السلام مع إسرائيل بأن الثمن هو عدم ضم إسرائيل لأراضي جديدة في الضفة، أي وكما أسميته في مقالة سابقة، «السلام مقابل حدود 2020»!
إن القضية الفلسطينية هي ورقة التوت التي كانت تغطي عورات الأنظمة العربية. فكان التمسك بها –ولو «خطابياً»– يعطي القادة شرعية هم في أشد الحاجة لها. ولذا لا تفتأ تلك الأنظمة تذكر القضية الفلسطينية وتنافح عنها فيما هي تطبع وتسالم وتهادن وتوقع الاتفاقيات والمعاهدات. إنه النفاق السياسي بكل مكنوناته!
باختصار، لدى قراءة ودراسة مقررات قمة العلا، لا يسع المرء إلا الترحم على المفكر العربي الراحل عبدالله القصيمي الذي أسمى أحد مؤلفاته: «العرب هم ظاهرة صوتية»!
Leave a Reply