وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
بعد مواجهات عسكرية دامية بين الجيشين السوري والتركي كادت أن تشعل فتيل الحرب في محافظة إدلب، خرجت قمة بوتين–أردوغان، الخميس الماضي، بتفاهم جديد على وقف كل أشكال التصعيد العسكرية في الشمال السوري في خطوة تهدف إلى احتواء التوتر بين دمشق وأنقرة في ضوء هجوم للقوات السورية بدأته في كانون الأول (ديسمبر) الماضي لاسترداد المحافظة من الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا.
فبعد ست ساعات من المحادثات بين الرئيسين الروسي والتركي اتفق الجانبان على وثيقة مشتركة تشمل وقف إطلاق نار شامل في إدلب، وإنشاء «ممر آمن» في المحافظة بعرض ستة كيلومترات شمال وجنوب الطريق الدولي M4 مع تسيير دوريات مشتركة وفق ما أعلنه الزعيمان في مؤتمر صحافي مشترك أعقب القمة بين الرئيسين في قصر الكرملين بالعاصمة موسكو الخميس الماضي. وقال بوتين إن روسيا «لا تتفق دائماً مع الشركاء الأتراك بشأن سوريا»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنه اتفق مع تركيا على مواصلة العمل بشأن سوريا بصيغة أستانة.
من جانبه، قال أردوغان إن تطبيق وقف إطلاق النار في إدلب، سيبدأ بعد منتصف الليل، متهماً النظام السوري بـ«العدوانية واستهدافه الاستقرار الإقليمي وتعطيل الاتفاقات حول إدلب. كذلك أكد أردوغان أن بلاده ستحتفظ بحق الرد بكامل قوتها في حال قيام دمشق بشن أية هجمات، وهو ما تم فعلاً بعد فترة وجيزة من سريان وقف إطلاق النار، حيث أعلنت وزارة الدفاع التركية، عن مقتل 21 من أفراد الجيش السوري وتدمير مدفعين وقاذفتين للصواريخ، وذلك رداً على مقتل جنديين تركيين برصاص الجيش السوري وحلفائه في إدلب.
وكان الرئيس السوري بشار الأسد قد استبق القمة الروسية التركية بالتأكيد خلال لقاء تلفزيوني أن الجيش السوري سيحرر شرق سوريا بعد تحرير إدلب من أيدي الجماعات المسلحة كما أشار إلى أن دمشق لم تقم بأي عمل عدائي تجاه تركيا لافتاً إلى وجود مصالح مشتركة وتلاقٍ تاريخي بين ثقافتي البلدين ومن غير المنطقي وجود خلافات بينهما.
وعن لقاء القمة بين بوتين وأردوغان يقول الخبير في الشأن التركي الدكتور محمد نور الدين إن تقييم اللقاء ينطلق من مقاربة المصالح الروسية والتركية، فبالنسبة إلى تركيا هي لم تجد أي دعم كانت قد طلبته من أميركا أو من أوروبا أو من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لجهة طلبها إرسال صواريخ باتريوت من أجل الدفاع عن الجيش التركي في إدلب في ظل الحظر الجوي الروسي المفروض على المقاتلات التركية.
فخيبة الأمل التركية، بحسب نور الدين، جعلت ظهر أردوغان مكشوفاً، وهو ما اضطره إلى الذهاب إلى روسيا لإيجاد تفاهمات تنقذه مما هو فيه، فخيار الحرب مع روسيا خيار محكوم بالخسارة أما روسيا فهي أيضاً محكومة بعدم الذهاب إلى صدام مع تركيا لسببين، الأول هو شبكة المصالح الاقتصادية والتجارية التي تربطها مع تركيا وخط السيل التركي وصواريخ «أس 400» والمفاعل النووي. لذلك كان لا بد من عقد هذا اللقاء وإن كان قد تأخر بسبب رغبة كلا الطرفين، تركيا من جهة، وروسيا وسوريا وإيران من جهة أخرى، بتحسين الواقع الميداني لصالحه في إدلب وهو ما كان سبباً رئيسياً في تصاعد حدة المعارك في الأيام الماضية ووجود مواجهات مباشرة بين الجيشين السوري والتركي وسقوط عدد كبير من القتلى من الجانبين.
وعن الضربة التي تلقاها الجيش التركي على يد الجيش السوري وحلفائه في 27 شباط (فبراير) الماضي والتي أدت إلى مقتل 36 جندياً تركياً، يقول نور الدين إنها كانت ضربة غير مسبوقة هزت أردوغان والجيش التركي، وهو ما دفع أنقرة إلى إلقاء ثقلها في المعركة من أجل محاولة استعادة مدينة سراقب التي تمكن السوريون وحلفاؤهم من استعادتها. وكما بات معلوما فقد انتجت معركة سراقب خسائر كبيرة في صفوف الجيشين السوري والتركي، لكن نور الدين يقول إنه مهما بلغ حجم الخسائر التي ألحقت بالجانب السوري وحلفائه فقد تمكن من امتصاصها وتجاوزها حيث قام بتغيير الواقع الميداني عبر السيطرة على مدينة سراقب الاستراتيجية.
الأحلام الأردوغانية
وحول علاقة ما يدور على الأراضي السورية بأحلام أردوغان باستعادة أمجاد السلطنة العثمانية، يقول نور الدين إن هذا المشروع كان فكرة جدية وحقيقية مع بداية ما سُمي «الربيع العربي»، بل كان مرجحاً لجهة عودة النفوذ التركي إلى المنطقة العربية عبر استبدال الأنظمة الموجودة بأخرى موالية لأنقرة. ولكن بعد سقوط مرسي في مصر وتراجع «حركة النهضة» في تونس وفشل مححاولات إسقاط النظام السوري، انخفض سقف الطموحات التركية، لكن جرى استبدال الحلم القديم، بما سمّي عام 2016 بـ«الميثاق الملي» وتشمل حدود «الميثاق الملي» الذي رسمه البرلمان التركي 1920 خريطة تضم كل شمال سوريا وكل شمال العراق، أي لواء الإسكندرون وإدلب وحلب وحوض الفرات ودير الزور وكردستان والموصل. فنغمة حدود الميثاق الملي تتكرر بشكل يومي على لسان أردوغان وكل المسؤولين الآخرين حتى أن شريكه دولة بهشري قال منذ يومين إن الانسحاب من إدلب يعني غداً الانسحاب من الاسكندرون!
يصر ويؤكد نور الدين على جدية هذا المشروع وضرورة عدم الاستخفاف به وتتخذه تركيا ذريعة ومبرراً لكل انخراطها المباشر في سوريا وعدم رغبتها بالانسحاب من إدلب تحديداً.
التوازنات الدولية
عن الموقف الأميركي الذي خذل أردوغان، يقول نور الدين إن واشنطن تفصل بين تركيا كدولة وبين السلطة السياسية القائمة ولا شك في أن الخلاف يقع دائماً مع السلطة السياسية، وقد تكرر ذلك سابقاً أكثر من مرة في الستينيات والسبعينيات وهو يحصل اليوم لاسيما بعد انحياز واشنطن إلى الأكراد، لكن رغم ذلك لا تزال العلاقات الأميركية التركية تتمتع بالبعد العسكري الاستراتيجي والذي يمثل ركيزة لهذه العلاقات لكن إبرام أنقرة صفقة شراء صواريخ «أس 400» مع موسكو كان القشة التي قصمت ظهر البعير وولدت غضباً أميركياً كبيراً فأوقفت تسليمها طائرات «أف 35»، كما اعترف الأميركيون بالإبادة الأرمنية.
غير أن الولايات المتحدة تحاول دوماً الحفاظ على علاقتها بتركيا كدولة عضو في «الناتو»، لكنها في الوقت عينه، تسعى لإطاحة السلطة الحالية المتمثلة بأردوغان عند أي فرصة ممكنة وهذا ما حاولت فعله خلال محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت عام 2016.
وفي ظل العلاقات العسكرية العميقة القائمة بين كل من تركيا وروسيا لا يمكن أن تعود العلاقات الأميركية التركية إلى طبيعتها.
ووسط إصرار الجيش السوري على حسم الأمور ميدانياً هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى وقوع صدام روسي تركي، يجيب نور الدين بالقول إن سوريا مهمة جداً بالنسبة إلى الروس فهي بوابتهم إلى الشرق وإلى البحر المتوسط وهي قاعدتها الوحيدة في المنطقة وقد كانت العامل الحاسم في صمودها حين تدخلت لصالحها عسكريا في أيلول (سبتمبر) 2015 لذلك فإن أي تحرك سوري أو تحرك روسي هو محكوم بالتنسيق بين الطرفين. فلا سوريا تستطيع أن تتحرك بمعزل عن الدور الروسي، ولا روسيا تنكر الدور السوري في محاربة الإرهاب وحفظ مكانة روسيا الدولية. ولولا صمود دمشق لكانت التنظيمات الإرهابية وصلت إلى القوقاز وقلب روسيا لتقض مضجعها.
الداخل التركي
وعما اذا كان أردوغان في مأزق داخل بسبب ما يحدث اليوم في إدلب وغيرها من مناطق الداخل السوري، يلفت نور الدين إلى أن العلاقات الروسية التركية محكومة بعدم الانزلاق نحو مواجهة عسكرية أوسع مما هي عليه الآن والأهم في كل ما يدور هو وجود العامل الروسي الذي يمثل الضابط والناظم لهذه العلاقة وهو لا يريد الدخول في حرب مع تركيا من خلال سوريا وهو لن يسمح لسوريا بالدخول في حرب مع تركيا التي تعرف أيضاً أن أي حرب مع سوريا ستعني حرباً مع روسيا لهذا السبب فإن الخيار الوحيد المتبقي للطرفين هو الذهاب إلى تفاهمات وهو ما تم تأكيده في اللقاء بين بوتين وأردوغان وبالتالي فإن ما يجري على الأرض هو عملية عض أصابع متبادلة لتحقيق مكاسب ميدانية يتم استثمارها في المفاوضات لتحشيد أكبر قدر ممكن من أوراق القوة تمهيداً لتفاهم جديد يضمن مكاسب لسوريا وربما أيضاً مكاسب تركية رغم توقع تقلص الرقعة الجغرافية التي كانت تسيطر عليها التنظيمات المسلحة المدعومة تركياً.
ولطالما سعى أردوغان إلى تسعير الخطاب القومي لحشد المزيد من الأصوات لصالحه لكنه في الانتخابات البلدية الأخيرة حصل تراجع كبير في نفوذ «حزب العدالة والتنمية» الذي يتزعمه، لاسيما في المدن الكبرى رغم قيامه عشية تلك الانتخابات بعملية عفرين لكنها لم تنفعه انتخابياً ما يعني أن المغامرات العسكرية الخارجية بدأت تنعكس سلباً على الرئيس في الداخل التركي، ولكن رغم ذلك تشير الإحصاءات إلى أنه يحظى بتأييد نصف الشعب بسبب الميول الدينية القومية. لكن هزيمة أردوغان في الانتخابات المقبلة مشروطة بوحدة المعارضة التركية من علمانيين وأكراد وقوميين معتدلين، وفقاً لنور الدين.
وعن اللاجئين واستخدام ورقتهم من قبل أردوغان يلفت نور الدين إلى أنه لطالما استُخدمت هذه الورقة بهدف تشويه سمعة النظام السوري وإظهاره بمظهر المضطهد لشعبه والذي يدفعه للهجرة وقد نجح أردوغان في تثبيت هذه النظرة لدى الغرب وفي الوقت عينه نجح في استخدام هؤلاء اللاجئين لإحداث تغيير ديمغرافي في المناطق التي يحتلها في شمال سوريا لأنه في حال طرد الأكراد منها سيستبدلهم بهؤلاء اللاجئين الذين هم في غالبتيهم يعادون النظام ويوالون أردوغان نفسه إضافة إلى أنه نجح في ابتزاز الغرب من خلال تهديده بالسماح بتدفق اللاجئين مقابل تزويده بالمال لمنع ذلك.
لكن في المقلب الآخر يمثل ملف اللاجئين عامل ضغط كبير على أردوغان لأنهم أصبحوا سبباً في مشاكل اجتماعية حقيقية مثل زيادة البطالة بين الأتراك وارتفاع معدلات الجريمة وبالتالي فإن مسألة اللاجئين هي سيف ذو حدين يعمل لصالح أردوغان في الخارج فيما يقض مضجعه في الداخل التركي وهو أيضاً يستخدمهم كمبرر لاحتلال بعض المناطق السورية وإنشاء مناطق آمنة. وقد استطاع حتى إقناع الروس بهذا الأمر، مؤقتاً على الأقل.
Leave a Reply