كل شيء معلّق؛ الأجواء الكروية لـ«مونديال» روسيا ربما شكلت فترة استراحة للقوى الكبرى التي تتنافس «سياسياً» على المسرح الدولي، تماماً كما تتنافس «منتخبات الكبار» على ملاعب كرة القدم في مباريات التأهل للأدوار النهائية، بتكتيكات معقّدة.
وإذا كان ثمة تشابه بين «التصفيات الأولية» في الحدث الكروي، وبين «ترتيب الملفات» في المشهد الدولي، فالثابت أن العالم المعاصر، وبعض تهاوي منظومة الأحادية القطبية التي روّج لها الأميركيون بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يعد يتقبل «مباريات الإقصاء» كتلك التي ستدور على ملاعب روسيا.
على هذا الأساس، ينصب الحراك الدولي العابر للحدود على«التصفيات الأولية» للملفات الشائكة التي باتت ممتدة من أميركا إلى روسيا، وبينهما أوروبا، بغرض فرض ترتيبات أولية تمهّد لحدث ربما يكون الأكثر أهمية على مستوى النتائج، خلال العام الحالي، وهو اللقاء المرتقب بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب على «أرض محايدة».
بطبيعة الحال، كانت ثمة حاجة إلى إنزال «لاعب» ماهر على استاد السياسة، تماماً كما هي الحال في كرة القدم. وعلى هذا الأساس كلّف دونالد ترامب مستشاره للأمن القومي جون بولتون بالسفر إلى موسكو لطرح إطار القمة المنتظرة، والتي تهدف إلى «تحسين» العلاقات بين البلدين، التي لم تصل إلى هذا المستوى المتدني منذ الحرب الباردة، على خلفية الحرب السورية ثم الأزمة الاوكرانية وصولاً إلى اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، فضلاً عن ملفات أخرى حساسة، من «الاتفاق النووي» مع إيران الذي انسحبت منه الولايات المتحدة، وصولاً إلى اليمن، حيث لا تزال السعودية تبحث عن مخرج لورطتها، والعلاقات الخليجية التي انتقلت إلى قاعات محكمة العدل الدولية، وصولاً إلى فلسطين، في ظل ما تحضّر له الولايات المتحدة من خطط مشبوهة تحت مسمّى «صفقة القرن».
أهمية خاصة
لعلّ ما يضفي أهمية كبرى على القمة الأميركية–الروسية المرتقبة في العاصمة الفنلندية هلسنكي، يوم ١٦ تموز (يوليو) القادم (اليوم التالي لنهائي كأس العالم)، أنها ستكون الأولى من نوعها، منذ تولي ترامب ولايته الرئاسية في مطلع العام 2017، فالرئيس الأميركي لم يسبق أن التقى مع نظيره الروسي، في هذا الجو الملبّد بالتوترات، إلا على هامش لقاءات دولية، آخرها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في فيتنام.
بذلك، فإنّ المأمول من قبل الجانبين أن تشكل القمة «الفعلية»، التي يفترض أن يحظى جدول أعمالها الشائك بوقت كافٍ من المناقشات، بما يسمح للطرفين أن يتوصلا إلى تفاهمات هنا أو هناك، أو على الأقل أن يحدّد كلّ منهما وجهة الآخر، ويتعامل على أساس قواعد لعبة واضحة قد تشهد تهدئة أو تصعيداً في كافة الملفات أو بعضها، أم أنها ستضفي إلى تصعيد هنا وتهدئة هناك.
على هذا الأساس، كان مفهوماً سر استقبال جون بولتون في موسكو بمراسم قريبة بمعظمها من تلك المخصصة لرؤساء الدول، وتخصيص لقاء مباشر بينه وبين الرئيس فلاديمير بوتين، بعدما حل ضيفاً على الغداء عند وزير الخارجية سيرغي لافروف.
ولعلّ بعضاً من تفاصيل اللقاء بين بولتون وبوتين تبدو بالغة الأهمية في توقع الإطار الذي قد يختاره البيت الأبيض والكرملين للقمة المرتقبة، حيث كثف الرجلان من الإشارات الودية المباشرة، فالرئيس الروسي توجه إلى ضيفه الأميركي على سبيل المثال بالقول إن «مجيئك إلى موسكو يعطينا الأمل بأنه يمكننا القيام بما قد يكون الخطوة الأولى نحو إعادة العلاقات الكاملة بين بلدينا»، قبل أن يبدي «الأسف» لكون «العلاقات الروسية–الأميركية ليست في أفضل حال» عازياً الأمر «إلى حد كبير» إلى النزاع السياسي الداخلي الحاد في الولايات المتحدة»، ومشدداً على أن «روسيا لم ترغب بتاتاً في المواجهة».
هذه العبارات استقبلها بولتون المعروف في كونه أحد أبرز «الصقور» في الإدارة الأميركية بعبارات مماثلة، حين أشار إلى أنه «حتى في الماضي حين كان بلدانا يشهدان خلافات كان قادتنا ومستشاروهم يجتمعون واعتقد أن هذا كان مفيدا للبلدين وللاستقرار العالمي والرئيس ترامب حريص على ذلك»، متوجهاً إلى مضيفه بالقول «نحن نثمن كثيرا لباقتك ونتطلع لكي نعرف كيف تمكنتم من تنظيم مباريات كأس العام لكرة القدم بهذه الدرجة من النجاح».
تعقيدات
برغم كل الإشارات الإيجابية التي اتسمت بها لقاءات بولتون في موسكو، والتي سبقته إليها رسائل إيجابية من ترامب نفسه، حين قال إنه «بات ضرورياً عودة روسيا إلى مجموعة السبع»، فإنّ الريبة بين الطرفين تبقى سيدّة الموقف، بالنظر إلى التعقيدات الكبرى التي تخيّم على العلاقات الثنائية من جهة، والملفات الدولية المتشابكة من جهة أخرى.
وإذا كانت الخلافات المرتبطة باتفاقيات خفض الأسلحة الاستراتيجية تشكل العنصر الأول الذي يمكن التوصل إلى تفاهمات بشأنه في القمة المرتقبة، خصوصاً إذا ما أبدى الطرفان «براغماتية» مشهودة لهما، فإنّ مسألة التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأميركية يبقى العنصر الأكثر تعقيداً، خصوصاً أن القرار بشأنه ليس ملك ترامب وحده، حيث منافسوه هم اللاعب الأبرز فيه، وهو قد يدفع الرئيس الأميركي إلى إبداء مزيد من التشدد في المفاوضات المرتقبة، حتى لا يواجه باتهامات داخلية من معارضيه من قبيل أنه «دمية في يد بوتين».
يضاف إلى ما سبق أن الصراع الدولي اليوم، لم يعد مقتصراً على الثنائي الروسي–الأميركي، فأوروبا بدورها باتت خصماً للاثنين معاً، وهو ما تبدّى في الخلافات المستجدة على ضفتي الأطلسي بعد قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما ينظر إليه الأوروبيون باعتباره إجراءاً أحادياً عدائياً من شأنه أن يحرم اقتصادياتهم مليارات الدولارات جراء العقوبات الأميركية المرتبقة على الجمهورية الإسلامية، وبالتالي احتمال خروج الشركات الأوروبية الكبرى من هذه السوق الواعدة، التي كانت حتى الأمس القريب معزولة عن العالم.
بهذا المعنى، يمكن فهم التشويش البريطاني الذي أفضى قبل أيام إلى تبني قرار دولي بتعزيز صلاحية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي بات بوسعها تحديد الجهات المسؤولة عن استخدام مثل هذه الاسلحة في سوريا، وهي المسألة التي جعلت العالم يحبس أنفاسه قبل أسابيع، حين أدى التحريض الأوروبي (البريطاني على وجه الخصوص) على خلفية مزاعم «كيميائية» في الغوطة الشرقية، إلى دفع التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا باتجاه نقطة خطيرة كادت تشعل مواجهة عسكرية غير محسوبة النتائج في ما لو اخفقت قنوات الاتصال الخلفية في احتوائها.
يضاف إلى ما سبق أن التشويش الأوروبي قد يمتد ليشمل واحداً من الملفات الشديدة الحساسية في العلاقات الروسية–الأميركية، وهو الملف الأوكراني وهو ميدان يمكن للأوروبيين التأثير فيه كثيراً بالنظر إلى كونهم لاعبين مباشرين فيه، علاوة على الملف السوري، حيث باتت فرنسا وبريطانيا شريكتين، بحكم الأمر الواقع، للولايات المتحدة في هذا البلد، خصوصاً بعد «العدوان الثلاثي» الذي استهدفت به القوى الثلاث سوريا على خلفية «كيميائي الغوطة» المزعوم.
مرحلة جديدة
ثمة قناعة راسخة لدى كافة المراقبين، من واشنطن مروراً ببروكسل ووصولاً إلى موسكو، بأن الفترة المقبلة ستكون مرحلة ترتيب الملفات والأولويات في كافة الملفات. وإذا كان هذا الأمر واضحاً في ما يتعلق بالجانبين الأميركي والروسي، لكونه أساسياً في تحديد جدول الأعمال، فإنّ السابقة على قمة ترامب – بوتين قد تشهد تحرّكات غير محسوبة من قبل أطراف غير حاضرين مباشرة على طاولة المفاوضات، وفي مقدمتها إسرائيل.
ويبدو الاهتمام الإسرائيلي بالقمة المرتقبة منصباً على أمرين؛ الأول، «صفقة القرن» التي تأمل تل أبيب من خلالها في تصفية القضية الفلسطينية عبر الغاء حق العودة بالتوطين، وتأبيد سيطرتها على القدس؛ والثاني، الأوضاع في جنوب سوريا، حيث من المتوقع أن تمارس إسرائيل عبر مجموعات الضغط المعروفة في الولايات المتحدة ضغوطاً إضافية على ترامب للتوصل إلى اتفاقات مع الجانب الروسي في هذا الإطار، وهو ما قد تواجهه موسكو خلال الفترة القليلة المقبلة بتغيير الخريطة الميدانية في الجبهة الجنوبية لمصلحة الجيش السوري.
وفي هذا الإطار، على سبيل المثال، يمكن فهم ما يجري اليوم من تحضيرات لعملية عسكرية ضخمة من قبل سوريا وروسيا لاستعادة السيطرة على درعا، لفرض واقع جديد على جدول أعمال القمة.
وضمن هذا الإطار أيضاً، يمكن وضع الغارة الإسرائيلية الأخيرة على القوات الإيرانية في سوريا، وما تشير إليه حول ما هو قادم، خصوصاً أن ما جرى يمكن النظر إليها باعتبارها رسالة واضحة من الجانب الإسرائيلي، مفادها أن «بقاء القوات الإيرانيّة في سوريا أمر غير مقبول». ولعلّ ما يعزز هذه الفرضة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحدّث إلى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل 48 ساعة من الضربة، وحذّر من أنّ إسرائيل تنوي ضرب إيران في سوريا، وذلك لمنعها من من اكتساب ممرّ إلى البحر الأبيض المتوسّط، أو ربما التوصل إلى اتفاق مع الدولة السورية على إقامة قواعد عسكرية.
الأمر ذاته، ينطبق على رجب طيب أردوغان الذي عزز نفوذه في المشهد التركي الداخلي بعد إعادة انتخابه رئيساً. وعلى هذا الأساس، قد يعمد «السلطان» التركي إلى فرض نفسه على أجندة القمة، في محاولة منه للضغط على الغربيين الذين يشعر بأنهم خانوه في ما يتعلق بملف اللاجئين وملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وعلى هذا الاساس، فإنّ تركيا قد تعمد بدورها إلى تسخين الجبهة الشمالية (إدلب)، في محاولة للضغط على الأميركيين والروس معاً، والحصول على مقعد في التفاهمات المحتملة التي قد تتمخض عن قمة ترامب–بوتين.
هذا نفسه ما تحاول السعودية والإمارات القيام به في اليمن، وإن بدرجة أقل، بالنظر إلى ضيق هامش المناورة لديهما في ظل فشل الأهداف التي كانت مأمولة من معركة الحديدة. ولكن من المتوقع بدرجة كبيرة أن تعمد هاتان الدولتان إلى البحث عن نقطة رخوة تمكنهما من اختراق قمة ترامب–بوتين بشكل أو بآخر.
ليس من قبيل المبالغة التوقع بأن بعد القمة الأميركية–الروسية لن يكون كما قبلها، فالحدث بحد ذاته يتسم بطابع محوري قد تترتب عليه الكثير من التداعيات حول هذا الملف أو ذاك… وإذا كانت ملفات العالم معلقة على هذا الحدث المرتقب، فإنّ الفترة الفاصلة بين الاتفاق على مكانه وزمانه وبين اللحظة التي سيجلس فيها ترامب وبوتين وجهاً لوجه «في بلد ثالث» قد تكون مرحلة حساسة في رسم معالم المستقبل في كل مكان.
Leave a Reply