«خطوة خطوة» هي العبارة الأكثر توصيفاً لـ«اللحظة التاريخية» في فندق «كابيلا» السنغافوري، حيث تقابل كيم جونغ أون ودونالد ترامب وجهاً لوجه، في مشهد لم يكن أحد ليتوقعه قبل أشهر خلت.
اللقاء التاريخي، وغير المسبوق، بين الرئيس الأميركي والزعيم الكوري الشمالي، أحدث اختراقاً مثيراً للدهشة، يتجاوز فكرة اللقاء بحدّ ذاته، بين «مجنونين» تبادلا خلال الأشهر الماضية، أشد حملات الهستيريا الدعائية، التي وصلت إلى مستوى التباهي بحجم «الزر النووي» الذي لدى كلّ منهما.
ولكن ما جرى كان مجرّد اختراق.
بعيداً عن الابتسامات العريضة، المبالغ فيها أحياناً، وعبارات الإطراء التي تبادلها الرئيسان –«رجل الصاروخ الصغير» و«الرجل المصاب بالخرف»– كما لو أنهما «صديقان حميمان»، فإنّ التوصل إلى تسوية شاملة لآخر جبهات «الحرب الباردة» بنسختها السوفياتية السابقة، دونه الكثير من التعقيدات التي تدور حول كلمة واحدة: «الريبة».
بطبيعة الحال، فإنّ التيار السائد في الإعلام الغربي المعارض عموماً للرئيس الأميركي تبدّى في «العسل المدسوس في سم» التقارير الاعلامية، التي أجمعت كلها على فكرة نمطية هي إمكانية «تملّص كوريا الشمالية من التزاماتها» استناداً إلى التجارب التفاوضية السابقة، والتي أفضت إلى تفاهمين فاشلين، الأول في مطلع التسعينيات، والثاني في مطلع الألفية الثالثة.
وإذا ما سلّم المرء بحقيقة أن «التملّص من الالتزامات»، كان سلوكاً كورياً شمالياً، طالما أن «الإعلام السائد» قادر على اقناع الملايين حول العالم بذلك، قإن الواقع يشي بعكس ذلك، فثمة أصوات كثيرة، بعضها رسمية في روسيا والصين وأوروبا، تعبّر اليوم عن قناعة راسخة بأن «النكث بالعهود» هو نهج أميركي خالص، وإن كانت تلك الأصوات نفسها تأخذ على الكوريين الشماليين مقاربتهم للصراع القائم في شبه الجزيرة الكورية، والتي تتلخص بعبارة «النووي ضمانة للأمن».
لعلّ القاصي والداني يدرك اليوم بأنّ دونالد ترامب هو التجسيد الفعلي لنهج «النكث بالعهود» الذي يعتبر القاسم المشترك بين كافة الرؤساء الأميركيين. وعلى هذا الأساس تتزايد التساؤلات، حتى لدى حلفاء أميركا أنفسهم، حول مدى قدرة الولايات المتحدة على الالتزام بتعهداتها، في حال الوصول إلى «اتفاق شامل» مع كوريا الشمالية، طالما أن دونالد ترامب قد عمد خلال النصف الأول من ولايته الرئاسية إلى التراجع عن الكثير من التزامات أسلافه، من اتفاقية التغير المناخي مروراً بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وصولاً إلى الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران!
هذا ما يفسرّ الكثير من الشكوك التي تحوم حول القمة السنغافورية، والتي لا تغيّر منها عبارات وردت في «الوثيقة الشاملة» التي خرج بها، ومن بينها التأكيد على ضرورة «إقامة علاقات جديدة بين الدولتين ستساهم في إحلال السلام والازدهار في شبه الجزيرة الكورية»، والإقرار بأن «الثقة المتبادلة يمكن أن تعزز نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية».
وثيقة تاريخية
حتى البنود الأربعة في «الوثيقة الشاملة» التي حملت توقيع ترامب وكيم، بدت نسخة منقحة –لغوياً– عن وثيقة العام 1993، التي خرجت عن جولة التفاوض الأولى بعد الحرب الباردة بين إدارة بيل كلينتون ونظام كيم جونغ إيل.
هذه البنود الأربعة ليست في الواقع سوى انعكاس لانعدام الثقة التي لم تبدده الأجواء الودية، وقد جاءت على النحو التالي:
1– تتعهد الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية بإقامة علاقات جديدة وفقاً لرغبة شعبي البلدين في السلام والازدهار.
2– إبداء الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية الرغبة في توحيد جهودهما من أجل إقامة نظام دائم ومستقر للسلام في شبه الجزيرة الكورية.
3– التأكيد مجدداً على إعلان بانمونجوم في 27 نيسان 2018، الذي تعهدت فيه كوريا الشمالية بالعمل نحو نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية
4– تتعهد الولايات المتحدة وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية العثور على رفات أسرى الحرب والمفقودين والإعادة الفورية لمن يتم تحديد هوياتهم.
أساس يمكن البناء عليه
ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى «اللحظة التاريخية» بمجرّد التشكيك، طالما أن ثمة أساساً يمكن البناء عليه للوصول إلى تسوية شاملة، وهو ما تضمنته الوثيقة من تعهد أميركي بـ«تقديم ضمانات إلى جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية»، بما يضمن سلامة نظامها التي تصفه أميركا بـ«الدكتاتوري» في مقابل «نزع السلاح النووي».
تلك المعادلة تعيد التذكير بما جرى في بقعة أخرى من العالم قبل سنوات، ولعلها نفسها تزيد الريبة الكورية الشمالية تجاه ما يُحاك في أروقة الاستخبارات ومكاتب السياسة في الولايات المتحدة، فمسألة «الضمانات» كانت العنوان الذي خرجت به التسوية الشهيرة بين الأميركيين ونظام معمر القذافي في العام 2004… وبقية «الصفقة الليبية» باتت معروفة، إذ لم تكن تمضي بضع سنوات، حتى تفجرت تظاهرات «الربيع العربي» في ليبيا، ولم يكن الأمر يحتاج سوى إلى بضعة أشهر، حتى ينتهي «النظام» بمقتل «العقيد» الليبي على مرأى من الجميع، بعد حملة قصف جوي «أطلسية».
على هذا الأساس، كان مفهوماً سبب الغضب الكوري الشمالي حين استحضر جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي، القادم من اقبية المحافظين الجدد في عهد جورج دبليو بوش، حين استعاد التجربة الليبية في مقاربته لتقدم المفاوضات مع كوريا الشمالية.
خديعة بالتراضي
تفضي قراءة سريعة لـ«الوثيقة الشاملة» إلى استنتاج مفاده أن ما يجري بين كيم وترامب هو «خديعة بالتراضي»، فالرئيس الأميركي يسعى إلى ترتيب الملفات الدولية بأقل الخسائر، ولاسيما في منطقة شرق آسيا، تمهيداً لتصعيد شرق أوسطي تستعيد معه الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال اسرائيل، المكانة المتراجعة… وأما الزعيم الكوري الشمالي فيريد تبريد أجواء شبه الجزيرة، وإرضاء الصين، الراغبة بدورها في تأجيل الحرب (الاقتصادية والسياسية … أو حتى العسكرية) مع الولايات المتحدة.
بطبيعة الحال، ثمة أسباب شخصية/داخلية لكل من الرجلين لكي يجعلا التسوية ممكنة، فثمة توجه لدى كيم جونغ أون لإحداث تغيير معيّن، لا تزال تفاصيله غامضة في منظومة الحكم، وهو ما تبدّى خلال الفترة الماضية، في استبعاد المنافسين المحتملين أو الفعليين، بما في ذلك أقاربه عن الدائرة المؤثرة، والدفع بشخصيات أكثر ولاءً كشقيقته التي فتحت طريق التفاوض من خلال زيارتها لكوريا الجنوبية خلال استضافة الأخيرة للأولمبياد الشتوي، والتي كانت حاضرة توقيع الاتفاق، إلى جانب وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو في سنغافورة.
وأما ترامب فهو لا يزال محاصراً بالحملات الإعلامية على وقع التحقيقات الجارية في ملف «تدخل روسيا في انتخابات 2016»، وهو يبحث بكل ما أوتي من «براغماتية» إلى إنجازات داخلية وخارجية، بهدف مقارعة الديمقراطيين الذين يسعون لاستعادة الأغلبية في الكونغرس في انتخابات نوفمبر القادم، وتفكيك إرث باراك أوباما داخلياً وخارجياً.
ولكنّ تقاطع المصالح الآنية لا يكفي لتحقيق النجاح، خصوصاً إذا ما ارتبط الأمر بتناقضات أكثر عمقاً، وصراعات دولية أكثر شمولية، ولذلك، فإنّ ثمة حاجة إلى انتظار سنوات «تقاس بها المسافة بين المكان الذي نحن فيه والمكان الذي يجب أن نكون فيه»، بحسب توصيف نائب وزير الخارجية الأميركي السابق ريتشارد أرميتاج للعملية السياسية الجارية حالياً على خط واشنطن–بيونغيانغ… ولا شك أن ثمة الكثير مما لم يتبدّ سيفرض نفسه على الخطوات اللاحقة.
Leave a Reply