محمد العزير
لم أتشرّف بعد، بلقاء شخصي مع قنصل لبنان العام في ديترويت الأستاذة سوزان موزي ياسين. إقامتي في كاليفورنيا منذ عشر سنوات، وزياراتي السريعة إلى ميشيغن، والتي تتم في غالبيتها خلال عطل نهاية الأسبوع، لا تساعد في حصول هذا اللقاء، ناهيك عن عادة، ربما لا تكون حميدة، اكتسبتها خلال عملي المديد في الإعلام، وهي عدم الرغبة في التعرف إلى المسؤولين والوجهاء والضباط إن لم يكن في الأمر مسوغ عملي يتعلق بمهمتي كصحفي. لكن أعتقد بصدق أن عدم لقائي بالأستاذة سوزان حتى الآن خسارة لي، في واحد من اهتماماتي الأثيرة وقضية حيوية أزعم أني من مناصريها الدائمين: تمكين المرأة في الشأن العام.
وحتى لا يؤخذ كلامي إلى غير مقصده ينبغي أن أوضح أني وبحكم عملي تعرفت على القناصل الذين تعاقبوا على الكرسي الدبلوماسي في ديترويت من أواسط الثمانينات في أواخر انتداب السفير نصرت الأسعد، ثم السفير فوزي فواز، السفير حسن سعد، السفير حسن مسلماني، السفير زين الموسوي، السفير علي عجمي، وصولاً إلى القنصل العام بالوكالة بشير طوق، وتحولت العلاقة مع البعض منهم إلى صداقة شخصية، ولم أتعرف إلى قنصلين عامين آخرين هما محمد سكيني وبلال قبلان بسبب انتقالي من ميشيغن.
من حسن طالع العرب الأميركيين وخصوصاً المغتربين من لبنان، أن تتولى هذا المنصب امرأة، وأن تكون مندوبة لبنان الرسمية في أكبر تجمع عربي أميركي مباشرة، مع صلاحيات تشمل تجمعات لبنانية أميركية في ولايات أخرى، هي الأستاذة سوزان، ليس انتقاصاً من زملائها السابقين ولا إفتئاتاً عليهم
لكنها جاءت في الجو المناسب والتوقيت الصحيح بعد طغيان الذكورية الموشاة بالتعصب الديني خلال معظم العقدين الماضيين، وبالتحديد بعد صدمة الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في 11 أيلول 2001، وما تبعها من تقلص للعمل المدني والسياسي لحساب عمل المؤسسات الدينية التي عملت بحماس على إعادة عقارب الساعة العربية الأميركية إلى الوراء وربط المجتمع الجديد بكل التردي الذي أصاب الأوطان الأم ولم تسلم الجالية من شظايا تمزقه واقتتاله.
الجو «المناسب» الذي جاءت فيه الأستاذة سوزان يتمثل في مبادرة المرأة العربية الأميركية وخصوصاً اللبنانية إلى ريادة العمل السياسي (أميركياً) والاجتماعي والإنساني، وتجلى ذلك أكثر ما يكون في الانتخابات الماضية، حيث كانت غالبية المرشحين والناشطين والمتطوعين من النساء اللواتي سجلن نتائج باهرة وأثبتن حضورهن بدءاً من المجلس التربوي إلى المجلس البلدي إلى المناصب المحلية والقضائية والعدلية، وكأنهن يشكلن خطاً موازياً للنمط الذكوري الذي لا يزال شغله الشاغل متابعة أوضاع الوطن الأم، إلا قلة قليلة من الرعيل الذي شهد بدايات التأسيس في ثمانينيات القرن الماضي، أو من الجيل الثاني الذي سئم من المماحكات الداخلية وتكرار المكرر. ليس غريباً بالطبع أن تكون الذكورية مهيمنة في مجتمعنا الجديد، ما دامت تنتشر كالوباء في المحيط الأرحب، وتستبيح ما كان يعتبر من المحرمات في المجتمع الأميركي الذي كان يتباهى برسوخ قيم الحرية والتسامح والديمقراطية ويستبشر بعهد جديد ما بعد رئاسة أوباما، قبل أن يستفيق على كابوس ترامب وكل ما جلبه من بدائية وتهافت وعنصرية وعشوائية، وكأن العامل الذاتي لم يكن يكفينا.
وجود سيدة في أعلى منصب يمثل لبنان في المعقل الأساس للجالية في هذا الجو يعطي بناتنا وأخواتنا وشريكاتنا الدليل الأكبر على أن نغمة العادات والتقاليد لم تعد تجدي نفعاً، وأن توظيف المرأة كحارس مرمى منفرد للذود عن العرض و«منع الذوبان»، فيما ليس على الرجال من حرج أخلاقي أو اجتماعي، لم يعد يستند إلى «ما لا نعرفه» في الوطن. وجود الأستاذة سوزان رد بلا تكلف على من يحتمون وراء موروثات الوطن الأم، فها هو الوطن الأم يتمثل فينا على أعلى مستوى بسيدة لا تقل كفاءة أو ملاءة أو مسؤولية عن زملائها، مع فارق في المتطلبات الميدانية التي تجعلها كأم أقرب إلينا كعائلات وأفراد وتنسف المسافة «البروتوكولية» التي تستهوي الذكور.
والتوقيت الصحيح لوجود الأستاذة سوزان، هو فضلاً عن تعزيزها للصورة الريادية للمرأة، يكمن في أن حضورها يساعد في إنضاج التجربة النسوية اللبنانية والعربية الأميركية من خلال التخفيف من الشكليات والرمزيات والعمل بمفهوم العمل المنتج. المتابع لنشاطات الأستاذة سوزان على وسائل التواصل الإجتماعي يلاحظ دون عناء أنها بتواضع وتلقائية وعفوية تباشر عملها في أوساط الجالية دون تكلف. هي في كل المناسبات تهتم بالثقافة والفن والتراث، تتابع قضايا شباب الجالية المسكوت عنها حتى الآن كالمخدرات، ولا تتأخر عن أي نشاط في أي مؤسسة اجتماعية أو خيرية أو دينية، تهتم بزوار الجالية دون تمييز، وحتى داخل مقرها الرسمي لا تتوانى عن مشاركة المعنيين في الخطوات العملية والتدريبية التي تشرف عليها وتشارك فيها بفاعلية لتكون الخدمات أفضل.
الدبلوماسية المسؤولة التي تتباهى بقراءة قصة لصف ابنها جاد محاطة بزملائه في المدرسة، لن يقف صوتها عند حدود غرفة الصف، بل سيصل إلى كل من يريد أن يسمع، وبالأخص كل من تريد أن تسمع. كذلك لن تقف حدود تأثيرها على مهاجري البلد الذي تمثله، مشاركاتها العربية الأميركية وبهذا المسمى سيكون لها صدى أوسع في المجتمع العربي الأميركي ككل، وكذلك مبادراتها المميزة سواء مع مؤسسات الجالية أو مع المؤسسات الحكومية في لبنان ستوسع من مفهوم العمل العام والتمثيل الرسمي. ولن يخفى على المتابع، الكثير من الميزات التي تحملها الأستاذة سوزان؛ التواضع، الثقافة العالية، حسن الاستماع، الاهتمام بالتفاصيل العملية، وحس المبادرة الذي لا ينتظر رسميات الدعوات أو معرفة الـ«من؟» قبل الـ«ماذا؟». هذه صفات يفترض أن تكون في كل مسؤول، ومن الواضح أنها ملازمة للأستاذة سوزان.
لن يكون انتداب الأستاذة سوزان إلى رئاسة البعثة القنصلية العامة في ديترويت مجرد اسم يضاف إلى لائحة من زملاء سبقوها وتركوا بصمات وصداقات في الجالية، بل سيكون حدثاً له ما بعده. وككل المفاصل الرئيسة في أية مسيرة لا تظهر كل المفاعيل مباشرة، ولا أشك في أن حضورها المميز سيجعل مهمة من يخلفها أصعب، إلا إذا كانت الجالية محظوظة إلى درجة تجعل خليفتها من جنسها، والأهم من خامتها ومستواها.
Leave a Reply